ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
القسم الثالث
آلان لايتمان Alan Lightman (مولود عام 1948) فيزيائي وكاتب أمريكي، عمل أستاذاً في جامعة هارفرد و معهد ماساتشوستس للتقنية MIT،
ويشغلُ اليوم موقع أستاذ متمرّس للممارسة في حقل الإنسانيات في المعهد المذكور. لعب لايتمان دوراً محورياً في جعل مقرّر (مهارات التواصل) متطلباً رئيسياً لكلّ طلبة MIT في كلّ سنة من سنوات دراستهم الأربع، حيث يتوجب عليهم حيازة تدريب كافٍ في تقنيات الكتابة ومهارات التواصل البشري.
يُعرَفُ عن لايتمان أنه كان من أوائل أساتذة MIT الذين أشغلوا مواقع أستاذية مشتركة بين قسمي العلوم (الفيزياء) والانسانيات، ومعروف عنه شغفه العظيم - في كلّ مايكتب ويفكّر - باستكشاف الفضاءات المشتركة بين العلوم والإنسانيات، وبخاصة فيما يخصُّ الحوار بين العلم والفلسفة والدين والروحانيات.
لايتمان هو مؤلف رواية أحلام آينشتاين Einstein’s Dreams التي حقّقت أعلى المبيعات وتُرجِمت إلى أكثر من ثلاثين لغة (منها العربية)، وتمّ توظيفها في عشرات العروض المسرحية والموسيقية في كلّ أنحاء العالم، آخرُها ذلك العرض المسرحي في برودواي بمدينة نيويورك. لاتزال رواية» أحلام آينشتاين» بين الكتب الشائعة التي تدرّسُ في مختلف المقررات الجامعية.
إذا جاز لي توصيف آلان لايتمان فسأقول باختصار : إنّه ثمرة طيبة من ثمار السلالة التي رعاها الراحل تشارلس بيرسي سنو Charles Percy Snow بعدما دعا إلى تجسير الهوّة المصطنعة بين الثقافتين العلمية والأدبية، ومن المؤكّد أن يشهد المستقبل القريب والبعيد مزيداً من تهاوي المصدّات الوهمية بين هاتين الثقافتيْن، وهذا بعضُ ماتشهد به أعمال آلان لايتمان، وبعضُ ماسعيتُ له في هذه الترجمة.
المترجمة
3. عندما يموتُ العالِمُ شاباً (8)
السنوات المنتجة الأكثر حيوية في حياة العلماء (وكذا بالنسبة لأبطال الرياضة) هي - بعامّة - سنوات بواكير الشباب. كان إسحق نيوتن في أوائل عشريناته عندما اكتشف قانون الجاذبية الكونية، وكان ألبرت آينشتاين في السادسة والعشرين عندما صاغ نظرية النسبية الخاصة، وكذا الأمر بالنسبة إلى جيمس كلارك ماكسويل ؛ فقد كان في الخامسة والثلاثين عندما وضع الأسس الرياضياتية لنظريته الكهرومغناطيسية.
عندما بلغتُ مؤخراً عتبة الخامسة والثلاثين لم يكن بمستطاعي تفادي ذلك التمرين غير المستحب والذي لايمكن كبحه : أن أتفكّر في مجمل مهنتي العلمية السابقة في حقل الفيزياء النظرية. عندما يبلغ الفيزيائي هذا العمر، أو بعد سنوات قليلة لاحقة على أبعد تقدير، تكون فترة الانجازات الخلاقة قد قاربت طور الانطفاء، وحينها يكون الأمر قد صار واضحاً لك : إمّا أن تكون قد أنجزت عملك الفخم والمبهر في الفيزياء، أو أنك لن تصنع شيئاً خلاقاً بعد ذاك.
بقدر مايتعلق الأمر بحالتي الشخصية، وكما هو الحال مع الأغلبية العظمى من زملائي الفيزيائيين، إنتهيتُ إلى قناعةٍ مفادُها أنّ عملي السابق في حقل الفيزياء كان إنجازاً محترماً ؛ لكنه لم يكن لامعاً. لابأس في ذلك ؛ لكن لسوء الحظ يتوجّبُ عليّ الآن تحديدُ ماالذي سأفعله مع سنوات حياتي القادمة. لم يزل أصدقائي المحامون والأطباء ممّن بلغوا الخامسة والثلاثين يتسلّقون بثبات نحو ذرى إنجازاتهم المهنية، وربما لاتزال أمامهم خمس عشرة سنة قادمة من العمل المنتج، وهُمْ غير موقنين بعدُ - كم هي بركة هذا اللايقين عظيمة ! - إلى أي الذرى العالية سيرتقون. إنّه لأمرٌ يبعثُ على الرعب بالنسبة لشخصٍ
في هذا العمر أن يدرك إدراكاً كاملاً - لاتشوبه شائبة - محدودياته الذاتية في نطاق مايمكن إنجازه على الصعيد المهني.
لماذا يبلغ العلماء (الفيزيائيون والرياضياتيون بخاصة) ذراهم المهنية العالية أسرع من المهنيين الآخرين ؟ لاأحد يعرف السبب المؤكّد. أخمّنُ أنّ الأمر ذو علاقة بمدى القدرة على الإنغماس الشخصي في موضوع ما والإبتعاد عن كلّ ماسواه : على سبيل المثال يبدو أنّ القدرة الفائقة على تصوّر العالَم في ستّة أبعاد أو تخليق صياغة رياضياتية مجرّدة لحركة بندول (نوّاس) تفضّلُ بالبديهة عقلاً فيزيائياً دينامياً ذكياً يضجُّ بالحيوية ؛ لكنّ هذا العقل في المقابل يهمل كلّ شيء ماخلا الفيزياء في هذا العالم. في مقابل هذا التمحور الشخصي على موضوعات بعينها تحتاجُ الفنون والآداب (الانسانيات بعامة) خبرة متمرّسة بالحياة، خبرة لاتنفكّ تتراكم وتتعمّق مفاعيلها مع العمر. يسعى المرء في حقل العلم إلى بلوغ الذرى المنطقية الخالصة للرياضيات والتي تتجوهر في صياغات رياضياتية تصف عمل العالم الفيزيائي (المادي) ؛ في حين يتوق المرء في حقل الإنسانيات إلى بلوغ فهم أعمق للبشر كلّما تطاول به الزمن. متوسّط أعمار الذين يُنتَخَبون في الجمعية الملكية البريطانية هو الأدنى فيما يخصّ الرياضيات، ومتوسّط أعمار الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء هو السادسة والثلاثون، وفي الكيمياء هو التاسعة والثلاثون. لاتختلف هذه الحقيقة مع بقية الحقول العلمية.
ثمّة عاملٌ مؤثر آخر يتمثلُ في الضغط الهائل الذي تثقل به المسؤوليات الإدارية والاستشارية كاهل المشتغلين بالعلوم، والتي تتعاظم مفاعيلها مع منتصف ثلاثينيات العمر ولاتترك فسحة لأي شيء سواها. تحصل مثل هذه الضغوط مع المهن الأخرى بالطبع ؛ لكنّ تأثيراتها تكون أعظم مع المشتغلين بمهن علمية تزهر فيها المواهب المميزة منذ بواكير الشباب حتى منتصف ثلاثينيات العمر (على العكس مع المهن الاخرى ؛ فالعمر كله متاحٌ لتعويض مافات، المترجمة).
يُبدي زملائي إستجابات متباينة إزاء الحقائق التي ذكرتها. بعضهمُ يتفاعلُ معها بأعظم ممّا أفعل، والكثيرون يتغافلونها ولايرهقون عقولهم في التفكير المفرط بها، والبعضُ الآخر منهم يبحرون في حياتهم بسعادة مواصلين العمل في الإدارة والتعليم من غيرما نظر حثيث إلى الوراء والتفكّر فيما حصل. العملُ في الهيئات الاستشارية الوطنية، على سبيل المثال، يعودُ بثمار عديدة للمجتمع المهني والأمة عندما يتيحُ لكبار العلماء المنتجين السابقين مشاركة المجتمع بمعرفتهم العلمية والتقنية. يمكن لكتابة المقرّرات الدراسية المنهجية Textbooks أن تكون مجلبة للسعادة والرضى، وفي الوقت ذاته توفّر أرضية خصبة لنموّ أفكار جديدة. يحاول الكثير من العلماء الآخرين مواصلة بحوثهم العلمية بطريقة أو بأخرى، وفي هذا الشأن يكون أمراً مفيداً إذا ماأحاط العالِمُ المتقدّم نفسه بجماعة من العلماء الشباب الطموحين، مُغذياً فيهم عناصر الخيال والحكمة.
لاأرى من جانبي في أيّ من الفعاليات السابقة وسيلة مقبولة للخروج من عنق الزجاجة. لاأتمسّكُ بأيّة أوهامٍ خادعة بشأن إنجازاتي الشخصية في العلم ؛ فقد كانت لي لحظاتٌ سحرية إختبرتُ فيها الذرى العالية في عملي، وأعرفُ تماماً مايعنيه العمل على فكّ شفرة أحجية ساحرة غامضة لم يفهمها أحدٌ من قبلُ. ذلك السحر المكنون في عمل بواكير الشباب يبقى شيئاً لايمكن تعويضه بأي شيء يأتيك لاحقاً. عندما كنتُ أديرُ مؤتمراً للفيزياء الفلكية في صيف سنة سابقة أدركتُ (ولطالما كنتُ مدركاً هذا قبل سنوات عدّة) أنّ معظم البحث العلمي المثير إنما ينهضُ به علماء شباب طموحون في منتصف عشرينيات أعمارهم، لايكترثون لشيء سوى عرض حساباتهم وأفكارهم على الملأ، وهُم إذ يفعلون هذا قلّما يتمهّلون قليلاً في زحمة انشغالهم للتنويه بفضائل سابقيهم، وحينها علمتُ أنّ الوقت قد حان لكي أخلي مقعدي لهم. ليس العنصر الابداعي الخلّاق في مهنتي كتابة مقررات منهجية، أو تدبيج مقالة توضيحية عن عمل علمي سابق تُنشَرُ في المجلات العلمية المتخصصة، أو ممارسة العمل الإداري. ليست هذه الأفعال هي مايُلْقي بي في قلب كرة نار الإبداع الخلاق، وأراني في هذا الشأن أقف معاضداً رؤية الرياضياتي العظيم جي. إج. هاردي(9) G. H. Hardy الذي كتب وهو بعمر الثالثة والستين :» وظيفة الرياضياتي أن يفعل شيئاً، أن يبرهن نظريات جديدة، أن يضيف إلى الرياضيات، لاأن يكتفي بالحديث عمّا فعله هو أو سواه من الرياضياتيين.»
إعتدتُ في طفولتي أن أستلقي في سريري كلّ ليلة وأتخيّلَ فنتازيات حول ماعساي أن أفعل من أفاعيل كثيرة مختلفة في حياتي القادمة. الأمر الأكثر إثارة في هذا الشأن هو الإمكانيات المفتوحة اللانهائية لما يمكن أن أفكّر فيه، حيث السنوات القادمة من حياتي مخبوءة في لجّة اللايقين الكامل. كلّ شيء ممكن وقابل للتحقق. إنّ خسارة تلك الآفاق اللانهائية في التفكير هي مايصيبني اليوم بحزن عظيم ؛ لأنّني صرتُ مدركاً لطعم المرارة غير المرغوب فيها والناجمة عن معرفتي أنني لستُ صنيعة مخلّدة.
لامهرب من مواجهة الحقيقة. كلّنا سنبلغُ يوماً تخوم محدودياتنا الشخصية بصرف النظر عن طبيعة المهن التي نختارها. تحصلُ هذه المواجهة المحتّمة في العلم، ولأسباب غير معروفة تماماً، في عمرٍ أبكر كثيراً ممّا يحصل في مهن أخرى، ويبقى أمام العلماء الذين تجاوزوا منتصف ثلاثينياتهم الكثيرُ من سنوات لاحقة أخرى. يخبرني بعضُ زملائي العلماء الأكبر سناً مني (والذين تجاوزوا أزمة البحث عن الروح في هذه الإنعطافة الحرجة من حياتهم) أنني سأتجاوزُ الآثار الخطيرة لهذه الإنعطافة مع الزمن. الزمن هو المعالج الأعظم في مثل هذه الحالات. أتساءل : كيف ؟ يبدو لي اليوم أنّ الأحلام الهشة لطفولتي، والتشجيع الطموح لوالديّ، وتعليمي الراقي في أفضل المدارس،،،، إلخ لم تنجح في تدريبي على خوض هذه المواجهة الحرجة مع حقيقة غياب الإنجاز العلمي الخلّاق للمرء وهو في الخامسة والثلاثين .
هوامش المترجمة
8. المقالة منشورة في صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 25 آذار (مارس) 1984.
9. جي. إج. هاردي (G. H. Hardy 1877 - 1947) : رياضياتي بريطاني ذائع الشهرة، له مساهمات مميزة في حقل نظرية الأعداد والتحليل الرياضياتي. أشتُهِر هاردي في المجال الثقافي العام خارج نطاق الرياضيات بعدما نشر عام 1940 مقالته الشهيرة (إعتذار رياضياتي A Mathematician’s Apology) التي أصدرتها جامعة كامبردج لاحقاً ككتاب كتب مقدّمته اللورد تشارلس بيرسي سنو. . المقتبس المذكور في المتن مستلٌّ من هذه المقالة.