احمد ثامر جهادحتى هذه اللحظة ما زلت أتخيل القاص محسن الخفاجي جالسا بهدوء حذر على دكة ذلك المقهى الصغير منتظرا ظهور دميته الساحرة مرة ثانية خلف واجهة الزجاج اللامع.أتخيله بالشغف الطفولي ذاته الذي جعل بطل قصته راسخا في مكانه الأثير وهو يرقب العالم بفتنة تحولاته.
(مات أبي. ربما مات أصدقاء أبي أيضاً. حصدتهم الشيخوخة، ووهنت عظامهم،فراحوا يستريحون في قبورهم البعيدة. مرت سنوات طويلة، وأنا أتردد على المقهى كل يوم لأرى فتاتي هناك،في مكانها المعتاد، تبتسم لي، وتمد يداً ذات أنامل رقيقة جذابة.‏)rnكانت الدمية بالنسبة للقاص رمزا أنثويا للجمال المحلوم به،وخيارا وحيدا لتعليق الأمنيات على أمل قصي يصّير الدمية كائنا حيا،يبدد وحدتنا حينما يبادلنا مشاعر المودة ذاتها.(صرت عجوزاً، وهي لا تزال شابة، كما عرفتها أول مرة، لا بد أنني سأكون مضحكاً لو اقتحمت زجاج الواجهة، وانتزعتها، وهربت بها بعيداً، تلاحقني لعنات المارة، زبائن المتجر. لكنني أفعل ذلك في حلم يقظة. أحطم الزجاج، وأحتضنها، وأطير بها إلى مكان بعيد لا ترانا فيه العيون.) الدمية الجميلة اختفت يوما ما بفعل سقوطها المريع لتحل في مكانها دمية أخرى بشعة. لكن القاص بقي هناك مؤبدا في حلمه الفردي. حلم الأديب الطامح في ان تمنحه الحياة لذائذ أخرى منشودة،مستحيلة وأبدية.(أمضي بها بعيداً خارج المدينة، إلى صحراء لا نهاية لها. ليس هناك سوى طيور جائعة تبحث في الرمال عن طعام ضائع، ونباح كلاب يأتي من الأقاصي، ونواح يمام بعيد.‏ )في هذا النص تحديدا أجدني مع كل قراءة له،اندفع صوب ملاحظة التماثل الغريب بين فتى الدمية والقاص ذاته. وكأن حياتهما امتزجت بشكل درامي عجيب جعل من الصعب التفريق بين عنصري الواقع والخيال.وقد يصح أحيانا ان الأبطال يرسمون مصائرهم بقدر ما يكتبون مصائرنا نحن.هاهنا أفكر ثانية بالأسى الذي خلفه اختفاء الدمية:متسائلا:هل ما زال القاص مفتونا بصورة المرأة المحنطة خلف واجهة المحل بابتسامتها المنحوتة في ذاكرته؟(في يوم خريفي جلست في المقهى أنتظر أن يفتح المتجر المغلق أبوابه، وحين فتحت الأبواب هالني أن لا أرى دميتي هناك. كانت هناك دمية أخرى بدينة بشعة لها ضحكة داعرة. أين اختفت دميتي؟!‏( هل فضل القاص صورة المثال على الواقع لدرجة عزوفه عن تجريب الحياة مع امرأة ما؟وهل ان المرأة التي تستحيل علينا ملامستها ستكون ارفع وأبهى من تلك التي تفتك بها أيادينا؟بحال من الأحوال تمضي الدمية إلى مصيرها النهائي،محطمة الأوصال ومركونة في الفناء الخلفي للعالم،فيما يواصل القاص أمله في رؤيتها تنبعث ثانية،في أحلام يقظته.(أقف طويلاً، أنظر إلى حطام دميتي، كأنني أنظر إلى حطام حياتي: حطام طفولتي وسنوات شبابي. لن يمكنني بعد الآن أن آخذها في حلم يقظة إلى أي مكان.‏ )ان القيمة الرمزية لهذه القصة تكمن في وضوح براهينها الجمالية التي تدفعنا للتمسك بالمشاعر الإنسانية الحقة،تلك التي يتوجب ان لا نبتذلها لصالح شئ غير جميل. لانه ببساطة لن يكون موجودا.الآن، ماذا بوسع القاص ان يفعل في عالم متبدل في قيمه ومعاييره وأحلامه؟هل سيبقى مدافعا عن أحلامه بوجه تبدل الحيوات والقيم والأشياء ؟ (ولكن بعد شهور عدت إلى المقهى، انتبهت إلى فتى يجلس في مكاني، ينظر إلى الدمية البشعة الحبيسة في قفصها الزجاجي، متأملاً شفتيها الداعرتين بوله غريب.‏ )في هذا النص أدرك القاص بحسه الأدبي ان العالم لن يمنحنا وقتا طويلا لتحقيق أحلامنا،وكل ما رغبنا به. وان الحياة التي نعرفها ستكون على الدوام أجمل بكثير من تلك التي تنتظرنا على الجانب الأخر،مثل مغامرة مجهولة غير مأمونة.هكذا أصبحت مسرات القاص ليست أكثر من محاولة استعادة ذكرياته عن زمن جميل مضى. زمن اخذ معه دمانا وأصدقاءنا وأحبتنا.لكنه رغم ذلك لم يفلح في تجريدنا من أحلامنا.rn*ورقة قدمت في الحفل التكريمي الذي أقامه البيت الثقافي في الناصرية للقاص محسن الخفاجي.
دمية محسن الخفاجي.. قراءة في اثر النص والحياة
نشر في: 27 يونيو, 2010: 05:29 م