عبد الخالق الركابي
بضعة شوارع تتخللها إشارة ضوئية واحدة هي كل ما كان يفصلني عن غرفة “رشدي العامل”. وبضع حقائق ـ لعل الموت هو أجدرها بالذكر ـ هي بعض ما يفصلني عن “رشدي” نفسه.
وبين ذلك الحضور وهذا الغياب لا أزال أدب على عكازي وحيداً خلال شوارع بغداد الحبيبة، مفتقداً عكاز “رشدي».
في إحدى المرات قمنا بجولة طويلة و”مضنية” خلال تلك الشوارع، أسنده أنا تارة، ويعينني هو طوراً ونحن نذرع الأرصفة، محاذرين أن تشتبك عكازاتنا مصادفة اشتباكاً ينتهي بسقوط أحدنا لا محالة. بعد أيام قرأت له في “آفاق” جريدة “الجمهورية” قصيدة جعل اسمي المتواضع لها عنواناً - وقد نشرت القصيدة نفسها في ما بعد في أعماله الكاملة الصادرة عن مشورات المدى -
(عبد الخالق الركابي)
لك واحدةٌ
وبين يدي مثلها
فلدينا إذن يا صديقي اثنتانْ
وظلان في دربنا يمشيانْ
فلنا صمتنا
إذا رقصت في الصدور الأغانْ
ولنا عذرنا
إذا بدأ الرقص في ساحة المهرجانْ
ترى ما الذي ذكّرني به الليلة؟ لعله شيء من الحزن الأزلي، وبعض من خيبة بصداقة ما. لعله رنين الهاتف في ساعة متأخرة، إذ إنه وحده الذي كان يحق له الاتصال هاتفياً بأصدقائه في الوقت الذي يشاء، ليس من أجل شيء سوى قراءة قصيدة جاد بها عليه “شيطان الشعر” أو التذكير بموعد لقاءٍ لنا صباح اليوم التالي.
حين كنت أتوجه إلى بيته لزيارته كان صوته المنداح من عمق صومعته المواجهة للباب الخارجي ـ وهو يدعوني للدخول ـ يسبق ضغط سبابتي على الجرس. وتحت وقع نظراته التي أعرف بأنه يتتبعني بها من هناك ـ ولعله يحاول أن يقيني بها عثراتي ـ كنت أجتاز الحديقة، مذللاً العوائق التي تعترض سبيلي قبل أن أرتقي بعد جهد عتبة صومعته العالية لأتهالك لاهث الأنفاس على الأريكة الملاصقة للجانب الأيسر للباب، لا تفصلني عن “رشدي العامل” سوى مسافة قصيرة تتقاطع فيها عكازتانا، في حين ينصرف هو من فوق سريره إلى إعداد فنجان قهوة لي على سخان كهربائي في متناول يده.
كان “دستويفسكي” و”ابن منظور” يسبقانني دائماً في الحضور: إحدى روايات الأول مستكينة بين يديه، وأحد أجزاء “لسان العرب” مستقر على الطاولة الملاصقة لسريره، ومن الخزانتين الخشبيتين المتداعيتين تطالعني كتب عديدة تتشابه مع بعضها بقدمها وخلوها من الأغلفة، كتب تعود إلى عقود خلت كانت تذكّرني بطول انقطاع “رشدي” عن ارتياد المكتبات.
كانت مكتبة كهلة تناقض حيوية “رشدي” وهو يحدثني بحماسة عن مغامراته و”عربداته” التي لا تتعدى اتصالات هاتفية تخطى بها حدود الوطن ليشنف سمعه بصوت ابنه البكر “علي” أو “سعدي” أو “الصكار” فضلاً عن اتصالات حميمة مع حبيبات لم يكاشفني يوماً ما باسم واحدة منهن.
لكنني ـ وأنا اسمعه، متذوقاً مرارة القهوة ملء فمي ـ كنت أجول بنظراتي على تلك الكتب التي كانت تلخص لي شباب الشاعر وفتوته التي ذوت مع كل غلاف سقط: “أفاعي الفردوس” لإلياس أبو شبكة، و”الجداول” لإيليا أبو ماضي، و”الملاح التائه” لعلي محمود طه المهندس، و”قصائد عارية” لحسين مردان، و”أساطير” للسياب...دواوين شعر من دون أغلفة، كنت أعرف مواقعها واحداً واحداً...ورق أسمر أكل الدهر عليه وشرب، وحروف باهتة التهمتها عينا الشاعر بمعونة عدستي نظارته عشرات المرات...كتب كنت أتحامل أحياناً على نفسي لأتلمسها بأطراف أناملي، ومعها كان يحضر شباب “رشدي” في ذهني: أتخيله شاباً وسيماً ـ وقد بقي كذلك حتى النهاية ـ يذرع الشوارع دون عكاز، يتتبع العابرات الأنيقات بنظرات الشاعر، وويل لإحداهن إن أخطأت وحدجته بنظرة عابرة، لأنها حينها ستغدو زاد اتصالات هاتفية مع الأصدقاء يؤكد خلالها لهم أنه ما زال محط أنظار الحسناوات!
كنت أتخيله يدخل المشارب ودور السينما، ويمر في طريق العودة على إحدى مكتبات الأصدقاء ليلتقط كتاباً ـ قد ينسى دفع ثمنه ـ ويحمله إلى البيت، محاذراً إتلاف غلافه الصقيل بعرق كفه.
كتاب جديد يأخذ موقعه في خزانة جديدة سأراهما أنا بعد أعوام وقد سقط غلاف الأول وتشقق خشب الثانية....
كان ديوان “صالح بن عبد القدوس” آخر كتاب استعاره مني. يومها بالغت في إلحاحي عليه بضرورة المحافظة على ذلك الكتاب وعدم التفريط به، حتى أنه انفجر في آخر الأمر صارخاً:
- وأين أفرط به؟ هل لي قدرة على ذرع الشوارع متأبطاً كتابك لأضيعه؟
فغادرته دون أن أجازف بمصارحته بخوفي من أن “يتبرع” بكتابي ذاك في لحظة نشوة - وما كان أكثرها! - لصديق شاء سوء حظي أن يكون معجباً بشعر ذلك الشاعر.
حين أعاد الديوان لي بعد أسابيع، مؤكداً أنه لم يصب الغلاف بخدش واحد، داريت خجلي بأن وعدته بالحصول على نسخة من ذلك الديوان من سوق السراي، فكان جوابه أن مد لي فنجان قهوة.
كنت أحسب “رشدي” خالداً عصياً على الموت، قد ينتظر أعواماً على أمل إيفائي بوعدي ذاك.
قبل سنوات رأيت ديوان “صالح بن عبد القدوس” مهملاً على رصيف شارع المتنبي وسط عشرات الكتب. كان منزوع الغلاف، يحمل على صفحة العنوان كتابات قراء مجهولين لعلهم حرصوا على اقتناء ذلك الديوان مثل حرص “رشدي” وحرصي أنا، فلم أستطع منع عينيّ من أن تغرورقا بالدموع.