طالب عبد العزيز
ربما سيكون رأياً شخصياً -هذا الذي اطرحه- لأقول بأنَّ قلة قليلة هي التي فهمت الفسلفة الماركسية، أو عملية التحول الى الشيوعية، أو أنهم قرأوا البيان الشيوعي وأدبيات الفكر العلمي الاخرى، قبل انخراطهم في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، ولأنني واحدٌ من أولئك، فسيحق لي تتبع الايام تلك، والظروف التي حالت دون انتمائي لغيره.
في الثامن من شباط العام 1963 كنت طالباً في الابتدائية، لكنني، حين دخلت بيتنا وجدتُ النسوة مجتمعات في زقاقنا الضيق، واجمات، باكيات، كأنهن يرثين أحداً، أبي وأشقاءه وأبناء عمومته كانوا خائفين وحيارى، ثم عرفت بأنَّ عبد الكريم قاسم قتل، وأنَّ حزب البعث والحرس القومي هم في رأس السلطة الآن، وهناك بندقية ماركة بورسعيد تطغى على المشهد كله. ما كنت لأعي بالتمام ماذا يعني هذا ! لكنني، استشعرت بأنَّ الفطور الصباحي (البيض المسلوق والحليب وقطعة الفاكهة) التي كانت تعطى لنا في المدرسة سوف تذهب الى غير رجعة، وحين كنت أذهب الى مخبز أبي ياسين، كان هناك رجلٌ بزيٍّ عسكري، يكنّى باسم أمّه يتحكم بالخبز، يخشاه صاحب المخبز والمتبضعون، بيده بندقية، ويلفُّ زنده بقطعة قماش خضراء كُتبَ عليها بالابيض حرفان(ح.ق).
هل اقول بأنَّ الانتماء ذاك كان رومانسياً؟ نعم. كانت خالتي التي بقرية السنيدية تحتفظ في ديوانية بيتهم بصورة جامعة للحكومة، التي يرأسها عبد الكريم قاسم، تظهر فيها صور لماجد محمد أمين، فاضل عباس المهداوي، وصفي طاهر، فيصل السامر، هاشم جواد، نزيهة الدليمي وآخرين لا أتذكرهم الآن، كنت أعاينُ الابطال العسكريين والمدنيين الانيقين، بالابتسامة الوادعة، فأرى أنَّ فطور المدرسة الصباحيّ وملابس معونة الشتاء وأحذية شركة باتا الكتان الجميلة والفانيلة الحرير في الصيف، مع اللباس الشتوي(الاندر وير) القطني ماركة ابو الارنب التي يشتريها لي أبي كلها إنما تأتي كلها من هؤلاء، كنت أنظر الى ايديهم فأجدها بيضاء، ناصعة، وأمينة على كلِّ شيءٍ من حولي.
هل أقول بأنَّ الانتماء ذاك كان رومانسياً؟ نعم. فبعد صبيحة الثامن من شباط بأيام صرتُ أسمع بأنَّ الحرس القومي اعتقلوا أحدَ أقربائي، وكان طالباً في الاعدادية، وأنَّ ابن خالتي سالم، المعلم أعتقل أيضاً، واستبدلوا مدير مدرستنا، ومعلم العربي الانيق الجميل، صبري الدغمان، الذي يحب عبد الحليم حافظ فرَّ بجلده الى الجزائر، كان حليب حكومة عبد الكريم قاسم ما زال أبيض في أظافر أصابعي حين انتقلتُ الى المدرسة المتوسطة، بنظران، لكنني، حين سألتُ مدرس مادة الوطنية(عبد الرحمن السعد) عن معنى البراجماتية اشفق عليّ، فوقف طويلاً عند رحلتي قائلاً:أين قراتها؟ قلت في مجلة (الثقافة) فذكر لي صلاح خالص، وسعاد خضر، وهاشم الطعان، وسلامة موسى.
شكلتْ قصائد مظفر النواب وسعدي يوسف وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف وسواهم جزءاً كبيراً من العاطفة تلك، ووقف قاموس عبد الرزاق الصافي كثيراً وراء حلِّ لغز الانتماء ذاك، وظلت صورة أبطالي الانسانيين معلقة في بيت خالتي، أو في خيال بيتي الى اليوم، ثم أنَّ الخط الاحمر الصارخ لـ (طريق الشعب) خلب لبي لسنوات أخر، كذلك فعلت دار التقدم برواياتها العظيمة وقصص ابطالها الاستثنائيين فعلها في الروح أيام ذاك.
يحق لي القول بأنَّ شيئاً مضاعاً، وفردوساً مفقوداً، أو حلماً طرياً ما، كان وراء الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي؟ ليس عندي إنما عند كثيرين، ممن تطلعوا الى عالم أجمل وأكثر طمأنينةً، وأجرؤ فأقول بأنَّ الفسلفة الماركسية بعمقها المعرفي لم تكن وراء انتماء المئات من الشيوعيين العراقيين. هل يعني هذا بانننا جميعاً ذهبنا في الاتجاه الخطأ؟ أبداً. فقد كان لنا حلم واحد، هو أن يعيش الانسان بسلام.