حيدر المحسن
من حسن حظّي أني لا أعمل في وكالة (هير ك) للتأمين مع فرانز كافكا، وكانت تشترط على موظّفيها أن يكون نومُهم من غير أحلام. ولا يشبه هذا الأمر الخبر الذي قرأناه منذ أيام عن ابتكار جهاز يُزرع تحت الجلد، ويكون بإمكاننا بواسطته اختيار أحلامنا. سوف تتعبنا أحلامنا عندها، وتكون همّا أرضيّا يُضاف إلى متاعب المعيشة، ويتعذّر عندها التّفريق بين أحلام النّوم وأحلام اليقظة.
لكن الحلم الذي أرويه لكم الآن حقيقيّ، لأنه يمثّل تجربة مررت بها، ولم يروِها لي أحد. الكوابيس تجلب قوتها الخاصّة، بؤرتها الخاصة، وكذلك الأحلام السّعيدة، تلك التي تزرع فينا رغبات تتلوّى مثل أسماك كبيرة -التعبير للشاعر اليونانيّ جورج سفيريس- وليس في مقدرة العلم الخوض في الكيفية التي تسكن فيها متجاورتَين، حمأةُ الرّعب التي في الكابوس، مع الجنّة في الحلم الرّغيد، أو كيف يتبادلان المكان ذاته في نومنا.
لا تسأل، انتظر فحسب، فعندما يكون السؤال واسعا مثل المحيط لا يقدر عليه الإنسان الذي يحتاج إلى فلك كي يبحر. وأين هو الفلك؟ ربما كان العقل يجرّب حرّيته عندما يجترح لنا صورا نسمّيها نحن أضغاث أحلام.
ومن ضمن تأليف مملكة الأحلام أنّي شاهدتُ نفسي في بلاد المغرب القصيّة، وقد حللتُ ضيفا على ملكها. كنّا جالسَين في مكان يشبه السّرادق، وكانت أمسية طيبة، البحر إلى يميننا، والغابة من جهة الشّمال. كنت أجلس ساكنا دون إحساس بالزّمن، تشملني ظلمة الورود الموزعة في أصص عند الزوايا، وكنت أشعر بالصمت وهو يتكثّف في المكان بشكل مختلف. بدا لي الملك كأنه محاط بنور ساطع، وكان يقرأ كتابا، والكثير من الحقيقة تسكن ثيابه الفضفاضة، وقلنسوة الرأس التي بلون متاهات مرجانية. أتمَّ قراءة الصفحة ثمّ قلبها متأنيّا. لا أحبّ أن أبدو محبطا، لكني كنت كذلك، وقد لاحظ الملك ذلك، ونظر إليّ. لم يقل شيئا، وتابع القراءة.
من يجلس في حضرة الملك، فإنه يتبلّل حتما بكهرمان نظراته، ويشعر عندها بالزّهو والتألّق، وهو في الحقيقة ليس شعورا محضا. لم تحتمل عيناي الوهج، وحوّلت بصري إلى ناحية الشّمس التي كانت تميل، تغطس ناحية البحر الهادئ. ثم رفعت رأسي قليلا، ونظرت إليه على استحياء. قلتُ:
ـ أرجو أن يعذرني جلالة الملك على هذا المزاج، فالأمر مؤلم صعب. كان لدينا في العراق ملك شابّ قتلناه، كما أن هناك شعورا جمعيّا لدى العراقيين بالذّنب من جرّاء ذلك الفعل الشّنيع.
نظر الملك إليّ نظرة ملأى بالرّقّة، لكنّها مفعمة بالأسى أيضا. ارتجفت، كأني كنت ارتجف من البرد، وفي تلك اللّحظة من الحلم انفتحت أوّل شروخ الدّمع في قلبي، وصرت أصغي إلى صوت بكائي وأنا نصفي في اليقظة ونصفي في النوم. أتممتُ كلامي: - وفي الوقت الذي لم يكن هناك شخص في بلدي ليس شاعرا أصبحت الموضة منذ ذلك التاريخ موضة القلوب القاسية. غاص قلبي مباشرة في بُحيرة من الأسف الشّديد لأني تفوّهت بهذا الكلام. أيّ كائن كان يسكنني وأنا أفكّر بما قلت؟! الملك في بلاد المغرب، وأنا في بلدي العراق، فما شأنه بما أتينا به نحن العراقيين على أنفسنا من تهلكة؟!
أستعير هنا منطق قصص ألف ليلة وليلة، حيث الواقع صورة من صور الحلم، وأفترض أن الملك كان يحلم معي في الوقت نفسه، وفي هذه اللحظة استيقظ جلالته من نومه، وها هو يفكّر أنه كان يحلم بمن كلّمه عن ملك مغدور به وشعب محسور وتعيس وبائس.
استعدّ لتناول فطوره بجولة في حدائق القصر، وكان يحاول تذكّر عنوان الكتاب الذي كان يقرَؤُه في الحلم. عنّت له دقائق النزهة الصباحية، وتراءت له طويلة. في كلّ مائة خطوة ثمة شجرة يبلغ عمرها أكثر من مائة سنة، كما أن المدرجات التي تؤدي إلى نواحي القصر العديدة غاية في الدقة، وعددها بلا حصر.
استقرّ الملك أخيرا في مكتبه، ومع فنجان القهوة الأول طفا على سطح يقظته اسم الكتاب، وكان «قصص ألف ليلة وليلة».