TOP

جريدة المدى > عام > نصب غاغارين في موسكو: سردية المعمار والنحات المقروءة

نصب غاغارين في موسكو: سردية المعمار والنحات المقروءة

نشر في: 10 إبريل, 2022: 11:50 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

اذكر جيدا 12 نيسان/ أبريل 1961، ذلك اليوم الذي عرف العالم به انطلاق اول انسان صوب الفضاء الخارجي..والدوران حول "الارض" والعودة مرة اخرى الى "الارض"! بالطبع،

انا اتحدث عن مأثرة "يوري الكسيفيتش غاغارين" (1934 -1968)، وقتها كنت طالبا في مدرستي المعمارية "معهد موسكو المعماري". كان وقع ذلك الخبر على الجميع مفاجئا وغير متوقع، لكنه كان ايضا مثار اعجاب واعتزاز وافتتان بالنسبة الى عموم الشعب السوفياتي في الوقت ذاته، وانسحب ذلك الانطباع المؤثر علينا نحن الطلبة الاجانب الدارسين في معاهد وجامعات البلد المضيف، حيث اشتركنا مع آخرين في التحية والترحيب بهذا الحدث المدهش عبر تجمعات عفوية جابت شوارع موسكو وانتظمت في تظاهرات صاخبة مرت في الساحة الحمراء: الميدان الحضري الاهم في العاصمة السوفيتية وقتذاك.

.. وتمر الايام، واسكن اثناء دراستي للدكتوراه بالقرب من ساحة عُدت من الساحات الرحيبة في مدينة موسكو وكانت في السابق "مدخلا" الى العاصمة من ناحية الجنوب. وفي تلك الساحة الحضرية القريبة الى نفسي، والتى كنت اعرف جيدا كل ما فيها وما في جوارها من مبانٍ ومنشاءات، تقرر في عام 1980، (اثناء انعقاد الالعاب الاولمبية في موسكو)، ان يتم نصب تذكاري مكرس لمأثرة غاغارين الفضائية. وتم ذلك بالفعل وافتتح ذلك النصب المعروف يوم 4 تموز/ يوليو 1980، وكان نصيا مميزا في اختيار مقياسه ومقاساته ليصبح لاحقا الحدث الاهم في "اثاث" الميدان المهم، والذي ستُعرّف به الساحة ذاتها، وتسمى "ساحة غاغارين".

وعن هذا النصب التذكاري الذي يمجد بمثوله الحضري ذلك الحدث من عام 1960 والذي نسترجع في مثل هذة الايام من شهر نيسان انجازه البطولي، اود ان اتحدث في مقالي هذا. لكني لا اخفي سراً، اذا قلت بان حديثي عن ذلك النصب الموسكوفي، يراد منه، بالاساس، ابداء مساهمة (..حتى ولو كانت متواضعة!) في الحوار والنقاشات الجارية عندنا بالعراق عن مفهوم القطعة النحتية وحضورها في البيئة الحضرية المبنية وتبادل الافكار عنها وعن اهدافها الفنية ودلالاتها الثقافية؛ ذلك الحوار الذي بدأته المعمارة "ميسون الدملوجي" مؤخراً في كتابها "منحوتات بغداد بين الفن والسياسة" الصادر ببغداد في 2021. وبقدر تعلق الامر بي، فاني انوي الاشتغال على متوازيات سريعة فيما تحقق في النصب الموسكوفي، وما هو "سائد" ومتبع (..وحتى امسى تقليداً) في الممارسة النحتية العراقية. لكني قبل هذا عليّ ان اعود الى النصب الموسكوفي، منوها بعجالة عن خصائصه.

يبلغ ارتفاع نصب "يوري غاغارين" في الساحة المسماة باسمه، 42.5 مترا، ويصل ارتفاع القاعدة لوحدها الى 38 مترا. كما يصل وزن النصب الى حوالي 12 طن. يوجد في مستوى اسفل القاعدة مجسم كروي للسفينة الفضائية التى استخدمها رائد الفضاء في رحلته المثيرة التى فتحت افاقا واسعة لدراسة الفضاء الخارجي. ويراد من "اميج" القاعدة الطويلة المضلعة اعطاء انطباع لهيئة عمود ناري ينطلق عادة من فوهات صواريخ المركبة الفضائية عند بدء الانطلاق. وتمثال رائد الفضاء مشغول بمادة "التيتانيوم" Titanium، وهي المادة التى صنعت منها المركبة الفضائية التى حملت غاغارين نحو الفضاء الخارجي، والتيتانيوم معدن من الفلزات الانتقالية، ذو لون فضي لامع، كما انه خفيف ومتين في الوقت نفسه، ومقاوم للتآكل حتى في الظروف القاسية؛ ومنه من "التيتانيوم"، كما اشرنا، تعمل عادة الاغطية الخارجية للمركبات الفضائية. عمل على النصب كل من المعمار "ياكف بيلوبولسكي" والنحات "بافل بوندارينكو" مع فريق انشائي متخصص.

لجأ مصممو النصب الى متخصصين في مؤسسة البحث العلمي للطيران، الذين اوصوا باستخدام سبيكة التيتانيوم المصبوبة كمادة اساسية للنصب التذكاري المنوي تشييده، باعتبارها الاكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية مع الحصول على لون ملائم وسطح لامع. وقد تم تجميع النصب من 238 قطعة مصبوبة، والتى تم ربطها بواسطة اللحام. وقد برزت مشكلة تقنية مع تصنيع الجزء الاكبر من النصب وهو وجه رائد الفضاء، التى قاربت كتلته من 300كغم وهي اكثر بكثير من المسموح به لصهر قطعة واحدة في فرن تفريغ. لكن المختصيين استطاعوا ان يتجاوزوا بعملهم الابداعي تلك الاشكالية التقنية. وعموماً فان النصب الموسكوفي، الآن، يعتبر من اكبر الانصاب المشغولة بالتيتانيوم في العالم.

يصبو المعمار في قراره باختيار ارتفاع عال نسبياً للنصب الى ترسيخ "لحظة انطلاق" الرائد نحو الفضاء الخارجي، اخذا في نظر الاعتبار خصوصية مجاورات الساحة التى ينهض عندها النصب التذكاري. كما ان تعيين علو القاعدة وتحديد شكلها ونسبتها الى ارتفاع النصب الكلي، اضافة الى قرار تقشف "إكسسوار" النصب واختزال اشكال اجزاءه المتممة، وغير ذلك من القرارات التصميمية تعود في غالبيتها الى المعمار المصمم، او في احسن الحالات الى العمل المشترك والحوار المثمر ما بين المعمار والنحات طيلة فترة اعداد العمل الفني وعمل المجسمات الاولية له.

تعكس المعلومات المقتضبة التى اروردناها عن النصب الموسكوفي نوعية السياق العام لعمل وتنفيذ "نصب تذكاري" في الفضاء الحضري المعاصر؛ وهو سياق متبع ومألوف في هذا المجال في العديد من بلدان العالم. بالنسبة لطريقة العمل عندنا، في هذا الخصوص، تبدو الامور مختلفة، اذ تنحو نحوا مغايرا. فيتكفل النحات، عادة، لوحده شخصيا باتخاذ جميع القرارات التصميمية الخاصة بالنصب، ما ادى الى <نكبات> فنية بسبب عدم الاختصاص، وسوء الفهم المتأتي من عدم المقدرة في فهم طبيعة ونوعية خصوصية البيئة الحضرية المحيطة. ثمة غياب متعمد، وغير مبرر اطلاقاً، لدور المعمار وحتى مشاركته مع النحات في اعداد وتصميم مثل تلك القطع النحتية. واذا ما كانت ثمة اخطاء كارثية تُلحظ في بعض النصب العراقية، فانها في غالبتها، تعزو الى مثل هذا الغياب المهني: غياب المعمار ودوره المهم في التقصي عن قرارات تصميمية ملائمة وذكية، رغم ان الممارسة العراقية ذاتها تحتفظ (..ولو بشكل مقنن) عن تجارب ايجابية عن مثل ذلك التشارك والتعاون المثمرين. لنتذكر "نصب الحرية" في الباب الشرقي ببغداد (1961) <النحات جواد سليم والمعمار رفعة الجادرجي وآخرون>، وكذلك "نصب الشهيد" في بغداد (1983) <النحات اسماعيل فتاح الترك، والمعمار سامان اسعد كمال وآخرون>، حيث تعزو ايجابية النصبين، في الكثير منهما، الى العمل التشاركي ما بين النحات والمعمار ولاسيما في تحديد مقياس ومقاسات القطعة النحتية والتعاطي بمهنية عالية مع مجاوراتها واصطفاء الموقع الانسب لها وتسهيل رؤيتها من قبل النظارة، والذي تكفلت بها قرارات المعمار المهنية!

لا يزال كثر من اصحاب القرار المعنيين في تحديد امكنة النصب التذكارية والقطع النحتية في الفضاء الحضري المحلي عندنا بالعراق، لا يزال كثر منهم لا يهتم ولا يراعي المستجدات الكثيرة التى طرأت على خصوصية مكان وجود الانصاب الفنية، وكأنهم "يعيشون" في ازمنة القرن التاسع عشر، حيث الساحات الوسطية والميادين المدينية امكنة اثيرة لديهم في اختيارها لتكون "موقعا" للقطع النحتية. <ترد على البال مباشرة المثال القريب الذي تم بموجبه "نقل" تمثال الفارابي (النحات اسماعيل الترك) من مكانه السابق الى وسط "ساحة الوثبة" ببغداد (2021)>. معلوم ان امور كثيرة تغيرت منذ ذلك الآوان، وخصوصا تلك المتعلقة بظهور "السيارة" بالوسط الحضري، وما نجم عنها من نتائج اثرت سلباُ وافضت، فيما افضت، من وجوب "نقل" تلك القطع النحتية من وسط تلك الساحات الى "جيوب" متاخمة لتلك الامكنة، تتيح "للنظارة" امكانيات التمتع برؤية تلك النصب عن قرب وتوفير فرص الجلوس بقربها. كما شاهدنا ذلك في مثال واضح عندما تم نقل "نافورة شافتسبري التذكارية" Shaftesbury M. Fountain (1893) في ميدان "بيكاديلي سركس" بلندن من مكانها في وسط الميدان الى موقعها الحالي في الجانب الجنوب الشرقي منه بعد الحرب العالمية الثانية.

وفيما يخص هذة الجزئية المتعلقة باختيار مكان للنصب الموسكوفي، فقد اتاح القرار المعماري لمشاهديه التقرب منه عبر اختياره موقع خاص له في جانب من الساحة الفسيحة، موقع اراد به المعمار النأي عن مخاطر الطرق ومجازفات الشوارع السريعة المجاورة. كما ان اصطفاء موقع النصب عند هذة الساحة تماما حمل في طياته دلالة رمزية، ذلك لان الطريق الذي سلكه يوري غاغارين من مطار المدينة الواقع جنوبا باتجاه مقر الحكومة والحزب في مركز المدينة لإبلاغهما نتائج رحلته الاستثنائية كان يمر عبر هذة الساحة على وجه التحديد.

واخيرا، فان التعرف على تجارب الغير الناجحة والمؤثرة واللافتة، يمكن له ان يؤسس لذخيرة فنية مفيدة قادرة ان تصوب النشاط النحتي المحلي وتمنحه خيارات واسعة في معنى ورمزية النصب التذكارية، وفي الاخص فيما يتعلق بخصوصية مقياسها ومقاساتها واختيار موقعها،والرفع من قيمة المكان الذي تنهض فيه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram