TOP

جريدة المدى > عام > أم ميمي.. بلاغ في سيرها وسلوكها!

أم ميمي.. بلاغ في سيرها وسلوكها!

نشر في: 12 إبريل, 2022: 11:24 م

مرتضى كزار

يقول دريدا عن قوة السرد «ما لايمكن قوله على الاطلاق، لا ينبغي الصمت عنه، بل كتابته»، كأن الكتابة هي حاسة سادسة للنطق بما لايصلح التفوه به.

وقد ينطبق ذلك على كل الألسنة، وخصوصاً لساننا العربي المبتلى بتردده بين سياقين، العامية والفصحى. فأنت بالمجمل تقرأ مفردات لا تفكر بها غالباً ولا تستعملها كثيراً في حواراتك اليومية. ولا أريد هنا الخوض في محنة انقسام الذهن بين العامية والفصحى والحوار السنوي الذي نتشاركه في اليوم العالمي للعربية، بقدر حاجتي هنا إلى الإشارة إلى مانخسره من طاقة تعبيرية هائلة حينما نتخلى عن استعمال الدارج من كلامنا اليومي في الكتابة السردية، بما يحمله من كنايات وتراكيب وحيل بلاغية.

الكتابة بالفصحى المجردة، الخالية من الدسم الشعبي، تفقد قدرًا كبيرًا من لذاعتها وشدتها الصوتية إذا كنا نتحدث عن شخصيات لا تفكر بالفصحى، ولا بالعامية المفصّحة حتى!. وقد نقع ضمنياً تحت مغبة الخيانة، ونصبح مترجمين سيئين لما تقوله تلك الشخصيات ذوات اللسان النافث للشرر مثل التنين، من جراء غضبها وانفعالها ومواهبها البلاغية في الحديث عن مأزقها الشخصي، الذي هو في الغالب مأزق لا تعاني منه وحدها، بل تحضر في النص بصفة ممثل شعبي عن طبقة من الناس، لم ينتخبها أحد لتمثيله والكلام بلهجته وصوته، بل استأهلت تلك المنزلة بالتوريث، لأنها وريثة لملامح بعضنا وهمومهم وطريقتهم في رصف الكلمات القاذعة، التي تقع على اليافوخ، مثل حصاة كبيرة.

إلى جانب الخيانة كتوصيف لخلعنا صوت الشخصية وجعلها تتكلم بالفصحى، ملتزمة بالضمة والشدة والتنوين، فإن مصادرة صوت الشخصية الأصلي، قد يدعى تزييفاً أو قل «تستراً» إذا شئنا استعمال تعبير جورج أورويل الذي يرى أن التستر اللغوي هو «أعدى أعداء الوضوح في اللغة».

ماذا يبقى مثلاً من أم ميمي؛ لو خضع خطابها الاحتجاجي لرقابة اللغة وسجنها الفصيح؟، أتحدث طبعاً عن رواية بلال فضل «أم ميمي» وكل ما اشتملته من أصوات لا يصمد الكثير منها فيما لو «انكتبت» بضمير الراوي المشغول بمراقبة السلامة الفكرية لكائناته، والتي في أحسن الأحوال ستخرج من موشور اللغة الفصحى لا تشبه نفسها، وقد استحالت إلى غيرها، مترجمة إلى لغة رسمية لا ينطقها الناس إلا وهم يقرؤون أو يتابعون فلماً مترجماً.

يسافر الراوي للدراسة في القاهرة، وكأنه يتحرك داخل زجاجة تحملها الأمواج ليحط أمام شقة أم ميمي، وتتهيأ له حظوة السكن معها في عشها الصغير مع ابنها غريب الطباع والسجايا -إن وجدت-، فأغلب الشخصيات في الرواية لن تعثر فيها على مرجعية أخلاقية تستند إليها وتجعلها قابلة للمحاكمة، تنطبق عليها كل مفردات الذات الدنيئة بكل تنويعاتها اللغوية: واطية، خسيسة، نزقة، براوية، مشرشبة، وتأكل مال اليتيم والنبي والغلبان في قصعة واحدة.

أم ميمي سيدة في خريف العمر تكشف عن ذاتها في السرد رويداً رويداً، تتعرى لغتها بمهارة وتكشف عن تأريخها الشخصي المحفور على طيات جسدها وتجاعيده وكدماته، فهي، كسائر شخصيات الرواية، خرجت من القاموس، ليست من لحم ودم، هي بالأحرى كائن معجمي يتألف من ألف شتيمة وشتيمة، وكذا زوجها السابق وابنها وصهرها، أشداء على الغرباء وأنذال بينهم، وكل من يدخل ذلك البيت، مثل أخونا الرواي بالله، هو مادة قابلة للاستثمار في أنشطة العائلة المتعددة، كالابتزاز والدعارة والقيادة حسب تعبير الفقهاء وهم يصفون مهنة الجمع بين الرجال والنساء للتعارف الفيزياوي!. ومادامت عدسة الحكاية وعنوانها مسلط على الشخصية البؤرة أم ميمي، فكل ما سيحدث مرتبط بها بنحو من الأنحاء، حتى حينما تغادر عالمنا إلى عالم ما بعد الموت، إذا افترضنا أن حياتها لم تكن موتاً، تبقى ظلالها تخيّم على النفوس، امرأة مثل جرح غائر في الجبين، ويحسب لصانعها أنه أختار عنواناً على اسمها، لأنها جرأة بالغة لا تتحلى بها الكثير من الروايات، أن تسمي روايتك الجادة، بعنوان ليس فيه من فخامة العنوانات شيء، أو شعريتها و موسيقاها، أم ميمي!، هكذا كأنك زاهد بأناقة العنوان وزخرفه، من أجل الوضوح والوفاء لمعدن الشخصية الصريحة، التي ستسمعها تسخر منك ضاحكة إذا ما قررتَ أن تتذاكى، وتتعالى، وتسميها: السأم والأمنيات، أو الصحافي والمومس الشمطاء، في مديح الخالة أم ميمي..إلخ من خيارات افتراضية، أسوقها من باب ادعاء خفة الدم وثقله في آن واحد.

لا تسيء سيرة أم ميمي إلى مجتمعها العربي الغيور، المغرور بفضائله، مثلما يسيء له نكراننا لوجودها وحقيقتها، ولعل أبلغ الأنطباعات حول ما تقوله أم ميمي كحكاية، أن العذابات التي تضرب احساسك بالمنطق وموازينه لا تقوي ظهرك إن لم تكسره، بل تجعلك ساخراً كبيراً، ومكسوراً، وحكيماً مؤقتاً في بعض ساعات التجلي، يائساً كبيراً، تحدق في خيباتك كلها بالتساوي دون أدنى شعور بالألم، فذاتك تصبح تحت تأثير بنج التجارب وضربات القدر المبرحة.

خلاعة بنات الليل وعجائزه الخبيرات تلتقي في منحنى واحد مع تجلي العارفات وتخلي المتوحدات الناسكات في الأسحار، كل ذلك، في ذات كاريكاتورية، لا تستحي.

لعل ما- قد- يعيق التلقي المحايد لميمي وأمه، هو معرفتنا المسبقة باشتغال الكاتب في سيناريوهات الأفلام، تلك التي أصبح بعض مشاهدها ميمات في خانة التعليقات تحت منشورات مواقع التواصل الرقمي، وما أعظم ذلك من حاجز فيما يخص سوء تقديرنا أحياناً للنسخة المكتوبة من هذه الشخصيات، وكم يضيع قسط كبير من وجودها وهي تنتقل إلى عالم السينما المصرية وألوانها ومزاجها الخاص بها. والحال أن أم ميمي شخصية روائية «مدللة» بامتياز، ويُحسن مطالعتها من هذه الزاوية، حالها حال غيرها من الذوات المتخيلة التي يعد خروجها إلى الشاشة مثل خروج سمكة من الحوض، تلبط وتتراقص من جراء اختناقها في ذلك الوسط المختلف الذي لم تكن مستعدة له، وذلك الجمهور الذي لا ينتظر منها غير نسختها المسطحة الصالحة للصالة المظلمة.

يصنع المؤلف متحفاً صغيراً من الشمع لنساء ورجال حقيقيين، مع ألسنتهم الحيّة التي أخفتها عنّا-نحن العرب غير المصريين- شاشات الدراما والأفلام، التي يظهر أنها متحفظة تماماً ويعاني أغلبها من إعاقة لغوية سببها الرقباء، فالذي تحذفه اللغة المبتلاة بالرقيب يشبه عضواً مستئصلاً يجعلك لا تتحرك مثل الآخرين، إنها السينما- ليس كلها إذا توخينا الدقة-، أعظم أختراع للتغطية ومواراة الواقع اخترعه الانسان. وهو ما تربحه الروايات القادرة على التفوه بما لا يصلح النطق به. أم ميمي وما يحيط بها، أناس منا وفينا؛ يمكنك أن تراهم في كل المدن مع اختلاف مستويات التعبير والموازين الأخلاقية، ويشكلون بمجملهم، أبناء وبنات الروايات، ساداتها وآنساتها، والمتعة المستودعة في رفوف الكتب.

فلتحيا أم ميمي، الكوميديا الخضراء الصديقة للبيئة، الناس البيئة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. نغم العزاوي

    هذا مقال يسبقنا في قول ما نود قوله وهذه سمة الكاتب الانسان. ان تكون السينما اعظم اختراع للمواراة... هذه فكرة جديدة كل الجدة وتبعث على التفكر عكس ما اعتدنا عليه تماماً. أما القفلة، فضربة معلم بحق!

  2. محمد عبدالنعيم

    روايه جميله ممتعه قراتها في يومين اسلوب جميل يعكس واقع المصريين المدفون اليوم للاسف بالتوفيق ياكاتبي المفضل استاذ بلال فضل

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram