TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: التاسع من نيسان

مرساة: التاسع من نيسان

نشر في: 12 إبريل, 2022: 11:26 م

 حيدر المحسن

لست ممن أنجبتهم هذه مدينة بغداد، لكني تربيتُ فيها ونشأتُ وقويَ عودي، فيحقّ لي إذن الكلام عن بعض مما يخصّها من عِمران أو خراب. كنت في الثّمانينات طالبا في كلية ينتهي أسبوعها الدراسي في ظهيرة الأربعاء،

حيث آخذ طريقي من باب المعظّم إلى الباب الشرقي سيرا على القدمين، وأنا أحاول في كلّ مرة اكتشاف الجمال الغامض والسّحر الخاصّ بالمدينة. وفي أيام العطل كنت أدور في درابين الفضل والحيدرخانة والشواكة، حيث عاش البغادة، وحيت تطبّعت الأرض بخصالهم، وأخذوا منها الاسم والوسم والصّفة. ولمّا بدأت أعمال إعمار شارع حيفا كنت أستبق البلدوزرات وهي تقوم بهدم الدُّور والمباني وبيدي دفتر وقلم أخطّط فيه مواقعَ الأزقة الضيّقة وأسماءَها، وأجاهد أن أملأ روحي بالرائحة والشذا الذي تبعثه البيوت المفتوحة الأبواب.

جرى السقوط الأول لبغداد على يد «هولاكو خان» يومَ 10 شباط 1258، وتمّ السقوط الثاني على أيدي الأنكليز في 11 آذار من عام 1918، وكان «السقوط» في تلك الأيام يعني انتقال الحكم من أيدي المسلمين إلى الكفار. ولكن تمّ إلباس الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق في 9 نيسان عام 2003 معنى مخاتلا حين وصف بالسّقوط، لأن السلطة الحاكمة في تلك السنين لم تكن دينية، وإنما مدنية فيها مجلس وطنيّ وهيئة للوزراء، وفيها رئيس ونائب أو نائبان، بل إن الحزب الذي كانت بيده أدوات الحلّ والربط كان يثقّف أعضاءه على أنه حزب علمانيّ، وهكذا فإن وصف الاحتلال الأخير بالسّقوط هو محاولة بائسة لإقحام الماضي في الحاضر، كما لو أن أحدا أجبر آلة الزمن على الرجوع إلى الخلف مئات السنين، وهو أمر لا يحدث إلاّ في الخيال، وفي فنون القصّ في دنيا الأدب. ولكن هذا ليس موضوعنا. قل لي: الجميع له ذكريات عن يوم التاسع من نيسان، فما هي ذكرياتك؟

صورتان بقيتا في الوجدان من ذلك النهار الربيعي. الأولى هي الأشجار المزهرة في شارع الصالحية المؤدي إلى جسر السنك، أغصان لا تُحصى تحمل ورودا حمراء كبيرة لم أرَ مثلها في السابق في المدينة. أكملت طريقي وأنا متفائل بهذه الأعجوبة الربّانية، ثم عبرت جسر السنك وقادتني قدماي وسط الفوضى والسرقات والحرائق التي شاعت في المدينة إلى شارع الرشيد. كان يرقد على الرصيف رجل مخمور وأكوام الذباب تغطي وجهه وشعره وذراعيه وقدميه الحافيتين. كان فاقد الوعيَ تماما، ولولا تنفسّه الرتيب لظننته ميّتا. وقفتُ على رأسه، وهززته محاولا إيقاظه لأن شمس الظّهيرة كانت قوية. في تلك اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان، عاد الرجل إلى وعيه، ولكن بالطريقة التي ابتغاها في وسط لجّة سكره؛ فتح عينين دمويتين لا علاقة لهما بمقلتيْ بني آدم. نظر إليّ شزرا، ولمّا تبيّنني صرخ بي:

- ماذا تريد؟

وقبل أن يبلغه جوابي تبوّل، وكان السائل يصعد من بدنه مثل النافورة، ويعود يسقط على بدنه. أكمل تبوّله، ثم انقلب على جنبه، وتبرّز... لا أظنّ أن لوحة تشكيلية فيها دلالات واضحة وقاطعة عن الواقع الذي ينتظرنا نحن العراقيين أكثر صدقا من صورة هذا السكّير الذي عاد بعدها إلى النوم والشخير، وأسراب الذباب تضاعفت هذه المرة.

المشهد الثالث الذي حفر صورته في القلب والذهن جرى في العام الماضي، وقد مرّ على ذلك اليوم -التاسع من نيسان- ثمانية عشر عاما. في محلّ للتسوّق في الحيّ الذي أسكنه، وعلى مصطبة جانبية جلست عجوز قربي. أشعلت سيجارة. سألتني:

- ما تاريخ هذا اليوم؟

- أجبتها: 9 4

لكن سمع العجوز كان ثقيلا، فرفعت صوتي وقلتُ لها، موضّحاً:

- إنه التاسع من نيسان، يوم سقوط بغداد...

لم تفهم العجوز منّي. وأنا أبعد عني دخان سيجارتها، كرّرتُ على سمعها الثقيل، وبصوت أعلى يشبه الصياح:

- هو يوم احتلال الأمريكان للعراق.

رفعت العجوز حاجبيها، وتنهّدت:

-أها...!

لم أسمع البتة في عمري أكثر من هذه ال “أها” صدقا وطبيعية!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

باليت المدى: جوهرة بلفدير

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram