لطفية الدليمي
نعرفُ محاولات حثيثة خبرناها من قبلُ لإعادة كتابة التأريخ في بلدنا ومنطقتنا العربية ؛ لكنّ الفرق بين إعادة كتابة التأريخ وإعادة حكايته (أو حكاية مفاصل مخصوصة منه) فرقٌ شاسع. هو فرقٌ في المفهوم ودافع المحاولة والمنشأ الجغرافي.
إعادة كتابة التأريخ تعني ببساطة تزويره فوق ماهو عليه من تزوير، وأن تعمل فيه مباضع الانتقائية وليّ الوقائع والأحداث بما يتساوق مع الدفق الآيديولوجي للحظة الحاكمة على المستوى السياسي. ليس من العسير فهمُ أنّ إعادة كتابة التأريخ هي عملية منتقاة ومفصّلة على جسم عالمنا العربي: شطباً لوقائع محددة، وتعظيماً لوقائع أخرى، وطمساً لتفاصيل من تأريخ قريب أو بعيد. تجربتنا في العراق تصلحُ أن تكون مثالاً معيارياً لهذه ال (الإعادة) في كتابة التأريخ.
تشيعُ اليوم، وبخاصة في العالم الغربي، محاولات لإعادة حكاية التأريخ. الغربيون يختلفون عنا من حيث أنهم لايعيدون كتابة تأريخ الوقائع المكتوبة، لالنزاهة مفترضة فيهم أو طهرانية أخلاقية ؛ بل – وببساطة شديدة – لانتفاء حاجتهم لتوظيف التأريخ الجمعي لمجتمعاتهم في تمرير أخاديع آيديولوجية أو حزبية أو سياسية مثلما حصل – ويحصل – عندنا. مايحصلُ عندهم منذ سنوات قليلة هو إعادة حكاية التأريخ، والأصح هوإعادة حكاية مفاصل من التأريخ الانساني بما يخالفُ السرديات الكبرى الشائعة.
معالمٌ خاصة هي تلك التي تسمُ الجهد الغربي وتميّزه عن محاولاتنا الفاشلة في إعادة كتابة التأريخ. من تلك المعالم: أنها جهدٌ فردي ينهضُ به بعضُ المفكرين السياسيين أو علماء الإجتماع أو الانثروبولوجيا أو الاقتصاد وليست جهداً مجتمعياً منظّماً تتكفل به الحكومات، وأنّ ذلك الجهد غالباً مايأتي في صيغة حكايات مضادة للحكايات السائدة وبما يفنّدُ واحدة أو أكثر من السرديات الكبرى. من المفهوم تماماً أنّ من يبتغون سلوك هذه المسالك إنما يسعون لتحقيق مغانم أكاديمية تترتب عليها مكاسب مالية ناجمة عن مبيعات مليونية من كتبهم المنشورة، وهذه مغانم مشروعة وليس عليها أية شبهة.
كثيرة هي الأمثلة على هذه الإعادة لحكاية التأريخ، منها: كتب يوفال نوح هراري Yuval Noah Harari، وديفيد غريبر David Graeber ، وروتغر بريغمان Rutger Bregman وسواهم. حققت مبيعات كتب هؤلاء ملايين الدولارات من الأرباح، وهذا ليس مثلبة أو مؤشراً على تهافتها، وفي الوقت ذاته ليس علامة مؤكدة على صوابية كلّ ماقيل فيها. ليس بعيداً عن أنظار القارئ المتابع تلك النقودات القاسية التي تعرّضت لها كتب هراري، على سبيل المثال، وبخاصة كتابه الأول عن (الانسان العاقل: موجز تأريخ الجنس البشري) من حيث اعتماده انتقائية شائنة في البيانات والشواهد التأريخية.
أتخيلُ أنّ إعادة حكاية التأريخ يمكنُ أن تتقمّص الشكل التالي: خذ حكاية سائدة من حكايات السرديات الكبرى للتأريخ الانساني، ولتكن مثلاً أنّ الاسلاف الأوائل للبشر كانوا غير ديمقراطيين بحكم الضرورة، وأنّ الديمقراطية خصيصة بشرية تطوّرت مع زيادة التعقيد المؤسساتي للبشر. ماذا تفعل الآن؟ قدّم أطروحة معاكسة لتلك السائدة ؛ أي بمعنى قدّم أطروحة تقولُ أنّ الديمقراطية سادت في المجتمعات الأولى ولم تكن غائبة، وان الديمقراطية ضرورة بيولوجية، ثمّ اقتنص من بيانات التأريخ وشواهده مايؤكّدُ أن الديمقراطية خصيصة لصيقة بالوجود البشري وليست طارئة عليه. ثم ماذا؟ قدّم أطروحتك النقيضة في إطار حكائي هو بعضُ موهبة الحكّائين والساردين الروائيين.
العقلُ البشري مخاتلٌ لعوب، وسيتكفّلُ بأن يضع أمامك كلّ الوقائع والبيانات التي تؤكّدُ أطروحتك، وسينبذ كلّ مايناقضها. هل بعد هذا من يعتقدُ منّا بالموضوعية الاكاديمية الكاملة؟ إذا كانت الكشوفات العلمية ترى أنّ الموضوعية حالة لايمكن بلوغها في حقل العلوم الصلبة (الفيزياء مثلاً) ؛ فكيف سيكون الحال مع حقل الانسانيات والعلوم الاجتماعية؟
قد تنتشي طرباً وتفكّرُ في كتابة أطروحتك الجديدة ؛ لكن تمهل قليلاً ؛ فليست كلّ فكرة عابرة تصلحُ أن تكون حكاية جديدة لواقعة تأريخية أو سمة إنسانية راسخة. تحتاجُ قبل كل شيء قراءات موسّعة، وبيانات شاملة، وعقلاً مركّباً يرى الروابط الخفية بين الوقائع، وقبل هذا تحتاجُ مهارة روائي متمكّن.
بعد كلّ هذا، هل ستكتبُ حكايتك عن التأريخ الانساني ؟