طالب عبد العزيز

الخطر يكمن في الوحدات المغلقة، أكانت زجاجاً أو حديداً، ولعل أخطرها هو الذي يتكون في الوحدات الانسانية المغلقة، وإذا كانت قوانين الفيزياء هي الحاكمة في انفجار الزجاج والحديد والمعادن الاخرى فأن الاعتقاد المطلق بامتلاك الحقيقة هو الحاكم في أفعال الوحدات الانسانية المغلقة تلك، وما يتسبب في قابلية انفجارها هو اصرارها على الابتعاد عن أفكار وأدبيات الوحدات المحايثة لها.

يوصف العرب المسلمون دائماً بانهم ماضويون، بتعبير الوردي، وأنَّ التاريخ جاثم على تفكيرهم، وأنَّ التراث الديني بثقله يحدد من تطلعهم الى المستقبل، لكننا، وبالعودة الى حركة التفكيروالوعي عند العرب في منتصف القرن الاول الى نهاية الثاني الهجريين لا نجد ذلك، في البصرة بخاصة، بوصفها منطلق النور آنذاك. يقول إبراهيم بن اسحق الحربي(198-277 هجرية) : “كان أهل البصرة - يعني أهل العربية منهم - أصحاب أهواء إلا أربعة، فإنهم كانوا أصحاب سُنَّة : أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي. هكذا، يجمع الحربي أهل البصرة، على أنهم أصحاب أهواء ومذاهب ونحل، بمعنى الاختلاف والتعبير الحر والرأي الآخر. في المدينة هذه، والتي تمثل عالمنا العربي كله يوم ذاك، عاش المؤتلفون والمختلفون معاً، ابن المقفع المعروف برأيه بخلافة المنصور والخليل بن أحمد الموصوف بتزمته وتشدده في عقيدته.

وعاش في البصرة الفرزدق الشاعر وبشار بن برد الشاعر ايضاً، وهما مختلفان جداً، حتى أنَّ بشاراً قال: “هجوت الفرزدق كثيرا لكنه أعرض عني، ولو أجابني لأصبحت اشهر العرب”. وعلى الصعيد هذا(العالم العربي) هذه عاش ابو نؤاس(من الأصول الفارسية) بتهتكه ومجونه، ورؤبة بن العجاج، العالم اللغوي المتشدد، والخليع الشاعر، الحسين الضحاك، الذي ناظر ابا نؤاس، والحسن البصري الزاهد، مع الجاحظ المعتزلي وغيرهم. ويصف أحمد كمال زكي في كتبه(الحياة الادبية في البصرة) شخصية البصري بانها قادرة على التشكيل والتوجيه، ويوعز ذلك الى قدرتها على قبول الاخر والتعالق معه، لا بوصفه خصماً إنما مرآةٌ لمعرفة وفحص الداخل العميق، وتكمن قوة الشخصية البصرية(العربية) في انها تمكنت من الوقوف صلبة قوية، في أول اصطدام لها مع حضارة أخرى(الفرس والروم) ولولا قوتها تلك لأطيح بها. فشخصية البصري العربي ليست إلا نبتةً طلعت في تربة أخصبتها أيدٍ لم تكل يوماً من الأيام.

إذا كان حديثنا قد جرى عن الشخصية البصرية بهذا التحديد فأن المقصود هنا هو شخصية العربي المسلم بعامة، يوم كانت المدينة الحاضرة الكبرى للمسلمين العرب، وما نبتغيه هنا هو تبيان قدرة الانفتاح في خلق الحضارة، وعجز الانغلاق على الخلق ذاك.

كان الخليل بن أحمد قد عقد حلقته في حياة ابي عمرو بن عبيد الذي انفق خمسين عاماً يدرس العربية والنحو عنده، فاتصل به النظّام (إبراهيم) وأخذ عنه، وقال بعد أن رأى نبوغه:” يا بني، نحن إلى التعلم أحوج منك، ولما ابتكر العروض واتسعت حلقته، جلس اليه الاصمعي وتردد عليه سيبويه في شيخوخته. وفي هذه درس كبير، فقد جلس المتشدد في عقيدته مع المعتزلي في حلقة درس واحدة، ومعهم تلميذ الزهد، الذي أصبح إمام الكلام، والفارسي الشيخ الأكبر في حلقة العربي الاقل منه سناً، والمتكلم بالفلسفة رفقة المختلف في الرأي وهكذا، فتعالوا نختلف لئلا ننقرض.