حيدر المحسن
هل المجد سوى فِناء يأخذ شكل قصة
- بورخس -
لا أعرف عدد المرّات التي قرأتُ فيها قصص محمد خضير، لكنها أكثر من عشرين مرة، أو أكثر من خمسين، حتما. وفي كلّ مرة أعيد القراءة تؤدي القصة الدور نفسه، فهي تأشيرة دخول إلى عالم جديد لا يعود منه من يتنسّم هواءه مثلما كان من قبلُ. تشبه قصة (احتضار الرسام) مثلا،
جسرا يقودك الكاتب عبره من يدك، بهدوء وحنان عجيبيْن، وتسيران في طريق تؤدي إلى قارة غير معروفة، تتجوّل فيها، وتحمل منها متاعك، وعندما تعود لا يعرفك حتى كلبك، أما الزوجة فهي دائما في انتظارك. «إني لك.. لك بثيابي وطراوتي وجهلي ودمي، حين تمرض وحين ترغب وحين تحضر وحين تغيب»، تقول إحدى نساء محمد خضير في قصة (منزل النساء).
- وماذا يقول الزوج؟
- كلّ الخدع الجميلة.
ما تمنحه القصّة القصيرة العظيمة غير المتعة، هو أنها تجعلك أكثر حكمة وشجاعة وتفاؤلا، والكثير من أعمال محمد خضير تقدّم لك هذه الهبات، لكني لا أريد التوقف عند هذه القصص. النصوص التي تعنيني أكثر هي تلك التي لم تكن قريبة من قلبي أبدا، حتى بعد المحاولة الخمسين للدخول إلى عالمها. النجاح مبذول في الوجود، وأما الفشل فإنه يكون خلّاقا أكثر عندما تدير دفّته يد عبقرية، فينعكس الفشل عندها على القارئ، وهذا يرجعه إلى القاصّ، والنتيجة من هذه المساجلة أن فنّ القصّ يخطو محمّلا بقوة اثنين لا واحد، مقتحما بفرط القدرة الجديدة الأسوارَ المانعة.
قصّة «الصّرخة» كانت صادمة لنا، وإلى الآن، وكلما عدت إليها ازدادت قوة التّنافر بيني وبين ألوانها والجوّ العامّ فيها، ورغم ذلك كانت ذات فائدة عظيمة لي، ربما تفوقت في ذلك على القصص المحبّبة إلى قلبي. بدأت بعد قراءتي الأولى لها بدراسة الفن التشكيلي، تنظيرا وتطبيقا، صرت أزور المعارض في أيّ مكان تقام في بلدي، وفي الأخير أنشأت مع الصديق سعد هادي قاعة للعرض أسميناها «أور» للعرض الفني، شارك في ملتقاها الأول أساتذة الفن في العراق، وكلّ هذا لم يكن يحصل لولا مشهد الباص الذي يعرض رسومه على المارة، ويقطع شوارع المدينة، مثلما تخبرنا قصة «الصّرخة».
«طيبوثة» هو اسم فتاة بدوية عمرها عشر سنوات وتسوق النّوق، لكنك لا تقدر على استيعاب وصفها بهذه الصورة: «عارية... وفي محور الشمس العمودي تشفّ بشرة جسدها فتسفر عن الأحشاء»، ما لم تكن درست الفن الوحشي وشيئا من التكعيبية، بالإضافة إلى معرفة عميقة للشعر الجاهلي، حيث الصحراء هي المكان، والناقة هي الواسطة في التنقل وفي العيش والمؤانسة. «إن الأفق أحمر والرّمال السّوية سوداء». يبلغ الوصف لدى الكاتب درجة أنه يرسم بريشة فنان له «نباهة صقر» لوحة لا تمّحي من الذاكرة، ذاكرة العين وذاكرة البصر. يرى الصقرُ خيام البدو من بعيد وهي «تنفصل عن الرمال كأهرامات طائرة». هذه صورة، لكن الكاتب لا يكتفي بتشكيل واحد في اللّوحة، فهو تعلّم من بيكاسو أن الأشياء في الكون وإن كانت منفصلة في الظّاهر، لكنها متحدة في الجوهر. وهكذا تتحوّل خِيَم الشّعر في الصحراء إلى أهرامات، «وعندما تصورت أن البدو قد فكّوا حبالها أبصرتها في خيالي كرايات». هل يمكن للتجريد في فن الرسم أن يبلغ أبعد من هذا؟
يراهن بعض الكتّاب على عنصر التشويق في القصة، وآخرون يتعمّدون فعل الإثارة، وما يرمي إليه محمد خضير هو ما يمكن أن ندعوه بمبدأ الإبهار. عنوان القصة غريب: «تاج لطيبوثة»، وطريقة السرد جديدة، والمشاهد الوصفية لم يألفها القارئ، ويصف الكاتب الناقة ومحيطها مثل شاعر جاهليّ، وتموت طيبوثة لأنها ابتعدت في الصحراء وأكلت نبتة سامة، ثم تقوم لها أنصاب، أو أنها كانت تتبع أنصابا، وينتهي القارئ من القصة دون أن يصله شيء ممّا يبتغيه في فن القصّ، ويسارع في طريق العودة إلى معرض اللوحات التي تأملَ فيها، ويظلّ يتأمل طوال عمره في فن التشكيل فيها، ويبصر، ويرى...