أ.د. ضياء نافع
مصطلح (علم الثقافة) باللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية و الروسية والكثير من اللغات الاخرى يتكون من كلمة واحدة فقط , وكل هذه اللغات تدمج كلمة (الثقافة) كما تلفظ بتلك اللغات مع لاحقة (لوجيا) , وكمثال على ذلك , فان هذا المصطلح بالروسية هو – (كولتورولوجيا) ,
وهي كلمة مزدوجة كما في اللغات المشار اليها , اذ انها تدمج الكلمة الروسية ذات الاصل اللاتيني (كولتورا = الثقافة // مع لاحقة لوجيا ذات الاصل الاغريقي القديم = دراسة , علم , فكر...الخ) , وهكذا باللغات الاخرى. هذا المصطلح شبيه من حيث البنية اللغوية بمصطلحات علمية عالمية كثيرة , اصبح بعضها مفهوما جدا لنا (نحن العرب) , وأخذنا نستخدمها (مع كافة اشتقاقاتها) حتى في كلامنا وكتاباتنا , مثل – بيولوجيا , جيولوجيا , سيكولوجيا , تكنولوجيا...الخ , رغم الرطانة الاجنبية الواضحة في تلك المصطلحات , الا ان مصطلح (كولتورولوجيا , اي - علم الثقافة) هذا بقي بعيدا عن التداول في عالمنا العربي ولحد الان , وأذكر مرة , ان أحد وزراء التعليم العالي العراقي في نهاية القرن العشرين كان يريد ارسال ابنه للدراسة في فرنسا , وقد منحه الملحق الفرنسي زمالة مجانية لدراسة ابنه هناك , واستغل الملحق الفرنسي طبعا العلاقة الجيدة مع الوزير , و اقترح عليه توسيع صلاحية الاشراف على قسم اللغة الفرنسية في كليّة اللغات من قبل الملحقية والمركز الثقافي الفرنسي في بغداد , وهكذا جاء مقترح تدريس مادة في قسم اللغة الفرنسية بكليّة اللغات عن الثقافة الفرنسية , اي (علم الثقافة) واقعيا , ووافق الوزير طبعا على ذلك استجابة و (امتنانا !) لمنح الزمالة المجانية لابنه, دون استشارة وتدقيق علمي سليم , او احالة الطلب الى اللجان المتخصصة لبلورته كما يجب , و (موافقة الوزير تعني طبعا موافقة الدولة في بلداننا !!!!) , وهكذا وصل الامر الوزاري الى كليّتنا (كليّة اللغات) , ولم تستطع اللجنة العلمية في القسم المذكور آنذاك ان تضع المفردات الملائمة لتدريس هذه المادة الجديدة , وبعد التي واللتيا والمناقشات الواسعة , اصبح اسم المادة – الحضارة الفرنسية (ضمن مفردات متنوعة وغير متناسقة , او كما قال احد الزملاء ساخرا – كشكول ثقافي !) , وجرى تعميم المقترح على الاقسام الاخرى , وهكذا بدأ التخبط في اقرار المفردات العلمية لهذه المادة الجديدة في الاقسام الاخرى , فكل قسم وضع مفردات ترتبط به (وحسب الاجتهادات الشخصية لمدرسي تلك المادة ليس الا) بغض النظر عن مفردات الاقسام الاخرى , بل وبرز حتى خلاف بشأن تسمية تلك المادة , فمنهم من اقترح تسميتها بالحضارة , وآخرون اقترحوا تسميتها بالمدنية , وقال البعض , اننا نقوم بتدريس هذه المادة منذ فترة طويلة ونسميها (الثقافة القومية) , واقترحوا توسيع مفردات تلك المادة باضافة من هنا وهناك ليس الا , الى آخر الاجتهادات الاخرى. هذا المثل يعني (فيما يعنيه) , ان مصطلح (علم الثقافة) لم يكن مفهوما لدينا , وان ظروف دراسته لم تكن ناضجة آنذاك , رغم انه يرتبط بجوانب ثقافية قومية محددة , اذ انه علم خاص من العلوم الانسانية يدرس كل الظواهر المرتبطة بعادات تلك الامة وتقاليدها و طريقة حياتها وقيمها ومفاهيمها الاجتماعية والاخلاقية السائدة وخصائصها , اي العلاقة المتبادلة (او التعايش) بين الثقافة وحياة المجتمع اليوميّة الاعتيادية , ويحدد هذا العلم جوانب التميّز (من تشابه وتباين) في ثقافة الامة مقارنة مع ثقافة الامم الاخرى , وبشكل عام , فان هذا العلم قريب جدا من مهام قسم علم الاجتماع المعروف, الذي يدرس طبيعة المجتمع وخصائصه. ان الملحق الثقافي الفرنسي كان محقا (من وجهة النظر العلمية البحتة) باقتراحه المذكور , اذ ان دراسة اللغة والتعمق فيها تقتضي حتما دراسة (علم ثقافة) تلك اللغة , لان اللغة تعبّر عن جوهر هذا العلم ومضمونه , اي ان هناك ارتباط عضوي وحيوي بين لغة الامّة وعلم ثقافة تلك الامّة , الا ان الملحق الفرنسي طبعا لم يكن على اطلاع واسع و دقيق حول واقع الدراسات اللغوية في العراق , وهذا ما انعكس لاحقا بشأن مقترحه , اذ تمّ (بعد فترة قصيرة نسبيا) الغاء تدريس هذه المادة كليّا في الاقسام العلمية كافة , بما فيها قسم اللغة الفرنسية (بعد ان تم نقل الوزير طبعا !), لأن ألاجواء العلمية السائدة عندنا لم تكن ملائمة بتاتا لدراسة هذه المادة الجديدة آنذاك , اذ اننا ندرس اللغات الاجنبية كافة (عدا اللغة الانكليزية) من الصفر , وبالتالي , فان الطالب لا يمكن ان يدرس (علم ثقافة) تلك اللغة , التي يتعلم اوليّاتها فقط لا غير , فدراسة علم الثقافة تأتي بعد معرفة تلك اللغة بعمق , اي ان دراسة علم ثقافة اللغة الاجنبية هي مرحلة عليا في عملية دراسة تلك اللغة الاجنبية , ولا زلنا بعيدين عن هذه المرحلة في دراسات اللغات الاجنبية مع الاسف , وكم نحن بحاجة للاطلاع على ما وصلت اليه الامم التي سبقتنا في مجالات علمية كثيرة , ومن جملتها الدراسات في علم الثقافة ومعاهدها العديدة المتخصصة...