لطفية الدليمي
قرأتُ مرّة أنّ كريستيان برنارد، الطبيب الجنوب أفريقي الذي يُعرفُ عنه أنه أولُ من قام بزراعة قلب بشري عام 1967، كتب قبل وفاته عام 2001 منتقداُ العمليات باهظة التكاليف التي يُرادُ منها إطالة حياة بعض البشر.
إنها مفارقةٌ كبيرة بالتأكيد أن يكتب رائد زراعة القلب في العالم مثل هذا الكلام، معللاً رؤيته بأنّ تكاليف الطاقم الطبي اللازم لمثل هذه العمليات تكفي لتوفير ألوف المحاليل المضادة للجفاف الناشئ عن إصابة أطفال فقراء في مناطق محدّدة من العالم بإسهال خطير قد ينتهي بالموت. هذه رؤية تنطلق من منبع أخلاقي قد يتخالف معه بعضنا وقد يعضّده بعضنا الآخر؛ لكن هذا ماكتبه الدكتور برنارد منطلقاً من رؤية فلسفية وعملية مفادها أنّ حيوات الكثرة من البشر أثمنُ من حيوات أفراد مخصوصين،وأنّ الخير العام أفضل وأبقى من خير يصيبُ قلّة من البشر.
جلستُ أتفكرُ بكلام الراحل الدكتور برنارد وأنا أقرأ بياناتٍ تفيدُ بأنّ الجراحة التجميلية صارت التخصص الطبي الذي يرغبه معظمُ أطباء العالم بسبب عوائده المالية المجزية المتوقعة. نقرأ عن (فلان) جرّاح تجميل فاتنات السينما، الذي يتكفلُ بشفط دهون بطونهنّ، وتكبير صدورهن، وقصّ جلد رقابهنّ المتهدّل، وشدّ وجناتهن حتى لايطقن مع هذا الشد كلاماً كما يفعل عامّة البشر، ولن ننسى نحت مؤخراتهن لتكون على مثال مرغوب لاأدري أهو مثال إغريقي أم نسخة من الأخوات كارديشيان !!
إنها مفارقةٌ تبعثُ على النفور إذا ماعلمنا أنّ العراق الحالي المحطّم في بناه التحتية – ومنها بناه الصحية بالتأكيد – راح أطباؤه الخريجون حديثاً يلتمسون التخصص المبكر في فنون الجراحة التجميلية، ومنها الجراحة البلاستيكية (الترميمية) Plastic Surgery عوضاً عن التخصصات المعروفة في الطب الباطني والأمراض القلبية، والجراحة العامة وسواها، معللين النفس بالثراء العاجل.من المؤسف حقاً أن نسمع مؤخراً عن حالات وفيات صاحبت بعض العمليات التجميلية الروتينية (مثل شفط الدهون) بسبب نقص الخبرة وعدم التمكّن من المهارات الجراحية المطلوبة.
ماأصلُ المشكلة ؟ الأصلُ ثقافي فلسفي كما أرى. نحنُ نعيشُ اليوم عصر مابعد الحقيقة Post - Truth حيث صار من اليسير تحريف بعضُ أساسيات العيش الطيب وتحويلها إلى وجهات نظر تحتملُ المساءلة ومن ثمّ التغيير بما يحقق مصلحة محدّدة لأطراف مخصوصة. صارت وسائل الإعلام، على سبيل المثال، تقصفنا كلّ آن بنسوة منفوخات الشفاه والخدود، منحوتات الأجساد، أسنانهنّ مرصوفة كما مساطر القياس المختبرية، وبيضاء كما ثلوج القطب. لن تحتاج هؤلاء النسوة إلى الحديث عن حالهن ؛لأنهنّ وسائل إعلان تنطق عن نفسها ولاتحتاجُ دعاية ترويجية.لنتصوّر أنّ نجمة مشهورة خرجت إلى الناس في لقاء تلفزيوني؛ فماذا سيحصل في اليوم التالي؟ ستكون ملابس هذه الممثلة، وأسنانها، وجسدها المنحوت، مدار أحاديث لن تنتهي بين النسوة والفتيات. تخبرنا الوقائع أنّ كثرة من الفتيات قد يقتطعن من لقمتهنّ ولقمة عوائلهن في سبيل الحصول على ابتسامة هوليود الثلجية الزائفة. هل بعد هذا نتساءلُ عن السبب الذي يدفعُ كثرة من الأطباء للتخصص في جراحة تجميلية صارت حصّالة نقود لاتشبع طالما وُجِد من يدفع.سيطلبُ هؤلاء الأطباء أجوراً باهظة،وسيوجد دوماً مستعدون للدفع. إنه (بزنس) مفتوح النهايات في سوق محكومة بآليات عرض وطلب رأسمالية متوحّشة تنمو باضطراد.
لم تخلقنا الطبيعة بأسنان مرصوفة كالمسطرة وبيضاء كثلوج القطب، أو بأجساد منحوتة وأنوف مقصوصة، ولو شاءت لفعلت، ونحنُ لسنا أذكى منها. ماذا لو ظهرت بعضُ التجاعيد على جبهتي وهي شاهدة انكبابي على قراءة امتدت عقودا طويلة؟ هل عليّ أن أخجل منها -وهي سمة شخصيتي- وأجعلها مصدر ربح لأشخاص يزدادون ثراء كل صباح؟ ماذا لو كانت أسناني طبيعية الألوان دون بياض ناصع؟ الأساس في الجسد أن يؤدي وظائفه بتناغم ورشاقة، لاأن يكون منحوتاً على مثال فلان أو فلانة.
عالمُ مابعد الحقيقة يريدنا أن نكون كائنات ممسوخة لانكفّ عن التحديق في أنوفنا أو جبهاتنا أو صدورنا، ثم ينتهي بنا المطاف كائنات عصابية لاتجد راحتها إلا وهي ممددة في صالة عمليات تحت رحمة جراح تجميل قد يكون سبباً في إزهاق أرواحها.
الحياة فيها مجالات للتفكر والبهجة أكثر بكثير من البؤس الناجم عن عصاب التمركز حول بضعة تجاعيد أو أسنان أو تضاريس جسد. الجسم هيكل الروح، أعِنْهُ بغذاء صحي وفكري ونشاط جسدي مناسب، تصالحْ معه واقبل بعض علامات تقدّمه في السن ولاتجعله ميدان حروب مكلفة لافائدة منها؛ أما مهرجانات الإحتفاء بالأجساد المنحوتة في عالم مابعد الحقيقة فلنتركها لمن يشاء أن يخسر طيب عيشه، وسلامة روحه وبدنه، وماله.
لاتُطِل النظر كثيراً في المرآة.