TOP

جريدة المدى > عام > كاليدوسكوب .. الإنسان والعالم من منظورات متعددة

كاليدوسكوب .. الإنسان والعالم من منظورات متعددة

نشر في: 24 إبريل, 2022: 11:35 م

د. شهرة بلغول *

تقدم الكاتبة العراقيّة لطفية الدليمي في كتابها « كاليدوسكوب الإنسان والعالم من منظورات متعددة» الصادر عن دار المدى سنة 2021 لقارئها «وليمة معرفية»

تحاكي في تعدد وثراء مادتها طبيعة شخصيّة صاحبتها، التي تفاجئه كل مرة بمدى التنوّع المعرفي الذي تزخر به مقاربتها، في زمن صار فيه التخصص الدقيق سمة العصر.

أوّل ما يلفت الانتباه في هذا المؤلّف هو طبيعة عنوانه «كاليدوسكوب» والتجلي الأيقوني له على وجه الغلاف؛ ولعلّ أبرز ما يوحي به فضلاً عن الرؤية الجماليّة، هو دحض الرؤية الأحاديّة للعالم، ورفض طابعها الهرمي التراتبي بشكل مبدئي، انطلاقاً من فرضيّة تعدد ضفاف الحقيقة تعدد زوايا النظر إليها، ممّا يجعل الاستعانة بمناظير مختلفة ضرورة معرفيّة؛ لتأسيس رؤية حواريّة-بينيّة بين التخصصات، لا مجرد ترف معرفي عابر، وهذا ما يكشف عنه لاحقاً مصطلح «الثقافة الثالثة» الذي لا يعني بالنسبة إليها تركيبا توليفيا هجينا بين الثقافتين الأدبية والعلميّة، بقدر ما يسعى لإحلال العلم في جوهر التجربة الإنسانيّة؛ انطلاقاً من أنّ «العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية وغير البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية بعد أن غادر مملكة الأفكار والرؤى الفردية والآيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مصنّعاته التي لامست أدق تفاصيل الحياة البشرية»، ويكتسب هذا الطرح خصوصيّته من كونه قد تزامن مع فترة حرجة، عصفت فيها جائحة كورونا بالحياة الإنسانيّة وبكل يقينياتها، فكان التباس الوضع بمثابة حافزٍ لإعادة طرح الأسئلة التي أزيحت سابقاً بفعل التسليم المطمئن بالأجوبة؛ ومراجعة التصوّرات التقليديّه لإعادة تشكيل العالم وفق رؤية مستقبليّة تأخذ بعين الاعتبار ما يفرضه الواقع من تحوّلات ورهانات، متسلّحة بالأمل الذي يحول دون السقوط في وهم الرؤية الديستوبية المنذرة بفناء البشريّة، لذا تقترح الكاتبة مرافقة قارئها في رحلة «سرنديبيّة» لاكتشاف المجاهيل دون أن ترسم له مساراً واحداً لتوجيه رؤيته وتحديد وجهته.

ثالوث المعرفة المقدس:

شكّلت الفلسفة والأدب والعلم الثالوث المقدّس أو لنقل الركائز الثلاثة في هذا الكتاب الذي توزعت موضوعاته بين التأليف (مقالات) والترجمة، وليس هذا بالجديد بالنسبة إلى الكاتبة، بقدر ما يعدّ سمة بارزة في الكثير من مؤلّفاتها، وكأنّها تؤكّد مرة أخرى على وجوب الانفتاح على كل ما أنتجه الفكر البشري «كي نحيا بشكل أفضل»، ذلك أنّ الإنسان ليس كائناً بيولوجياً فحسب فـ»ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»؛ بل كائن يتميّز عن غيره بالقدرة على الاندهاش وتأثيث علاقته بالوجود وفق ثنائيّة الوظيفي والجمالي، وهذا ما يجعل السؤال والخيال والمعرفة دعائم محوريّة تؤسّس لوجوده الفعلي في العالم، لذا لا مناص من إعادة النظر في الطريقة التي نتعاطى بها مع هذه التخصصات، والانتقال من عدّها فروعاً منفصلة إلى عدّها مسارات متداخلة تكشف في نهاية المطاف عن طبيعة الفكر الإنساني المركب.

تفتتح الكاتبة مؤلّفها بمقالة حول «السعادة» بوصفها الهاجس والسؤال المركزي في حياة البشر جميعا، متسائلة حول طبيعتها وإمكانيّة تحقّقها، مستعينة برؤى فكريّة وفلسفيّة لكشف زيف النظرة الرومانسية الحالمة التي تتصوّرها بوصفها محطة وصول دائمة ونهائية، ومبرّرة شيوع التصوّرات الماديّة حولها بالأهداف الخلاصيّة العريضة التي حملتها الثورة العلميّة والتقنيّة، مقترحة في الختام تأمّلات مركّبة حول الظاهرة، لا وصفة جاهزة لتحقيقها؛ انطلاقاً من أنّ السعادة صناعة ذهنيّة وخيار فردي ممكن لا حتمي بالضرورة.

كما تحيل قارئها في مواضع كثيرة إلى مصادر معرفية مختلفة تغيب فيها النظرة المعياريّة التراتبيّة (كتب علميّة وأدبيّة، مقالات صحافيّة وأخرى نقديّة، أفلام سينمائيّة ووثائقيّة...) حفزتها لإقامة حوار معرفي معها، حول العديد من القضايا التي جرت العادة بتهميشها، من ذلك ما يتعلّق بموضوع الحب بكل أبعاده النفسية والثقافيّة والوجوديّة، وموضوع العبقريّة والأنظمة التعليميّة في مشهد عربي لا يعبأ كثيراً بالفتوحات العلميّة إلاّ بوصفها منتجاً استهلاكياً وافداً، لا نسقاً ثقافياً متأصّلاً، إضافة إلى أسئلة النقد الأدبي والكتابة الروائيّة في ظل مشهد ثقافي عولمي مركّب سريع التغيّر والتحوّل، دون أن تكتفي بطرح الأسئلة وإثارة الإشكاليات؛ بل تقدّم رؤية استشرافيّة تتيح تأمّل القيمة المعرفيّة والآفاق المستقبليّة التي لا يحسن التقاعس عن بلوغها؛ بحكم أن الثقافة الثالثة «ستعيد تشكيل الوجود البشري على كل الأصعدة وبخاصة في نطاقين حيويين: التعليم والسياسات الثقافية».

الرواية والهاجس المعرفي في القرن الحادي والعشرين:

تولي الكاتبة موضوع العلاقة بين علماء الفيزياء وعوالم الرواية والفلسفة اهتماماً بالغاً، مفسّرة هذا التقاطع بالالتقاء حول الأسئلة الوجوديّة الكبرى (البحث عن معنى الوجود وغايته)، كما ترّد التوجّه المتزايد نحو الرواية في هذا العصر إلى طبيعة الدور الذي تلعبه اليوم في ظل انحسار دور المؤسسات الأكاديميّة التقليديّة في نقل المعرفة، فضلاً عن تراجع الرغبة في القراءة التقليدية التي تستقي المعرفة عادة من مصادرها الرصينة، ففي ظل ما يشهده العالم اليوم من تفجّر معلوماتي رهيب، صار لِزاماً البحث عن وسائط بديلة تكفل تحقيق «صالح الفرد والمجتمع»، وتمكِّن في الوقت ذاته من استثمار هذه المعرفة على المدى البعيد، وتستدل الكاتبة على ذلك برواية «أليس في بلاد الكم: رحلة خيالية في عالم فيزياء الكم» للفيزيائي الأمريكي روبرت غيلمور Robert Gilmore المنشورة سنة 1995، والتي تستثمر الحكاية الأصليّة (أليس في بلاد العجائب للويس كارول) لتمرِّر إلى الطفل معرفة علميّة متخصّصة تتعلق بميكانيك الكم، وهذا ما يدفعها إلى إعادة النظر في تصنيفها بوصفها رواية خيال علمي، تقول:» أرى أنّ توصيف رواية (أليس في بلاد الكم) بوصفها رواية خيال علمي ينطوي على قدر كبير من الابتسار، وأظنّ أنّ من الأصح وصفها بأنها رواية معرفية تتقنع في إطار روائي تخييلي»، كما تحتفي في مقام آخر بالطفولة بوصفها مصدر التنوير والشغف المعرفي، فتقلب بذلك الرؤية التقليدية الشائعة حولها، حين تشير إلى أنّها المسرح الأوّل الذي يشهد تفجّر المساءلات الوجودية الكبرى حول الكون والحياة والوعي، وكأنّها تدعونا إلى أن نأخذها على محمل الجد، مستشهدة في هذا الشأن بمقولة للفيزيائي بريان غرين: «منذ أن كنتُ طفلاً تلبّسني ولعٌ عظيم في التفكير بهذه الأسئلة: لم أفكّر بـِ (لماذا أنا هنا؟) بل بـِ (كيف جرى الأمر لأكون هنا؟)، ولم أفكّر بـِ (لماذا يوجد كونٌ؟) بل بـِ (كيف حصل الأمر ليكون الكون على ما هو عليه؟). إنّ مثل هذه الأسئلة تقودك حتماً إلى قلب الفيزياء».

تسجِّل الكاتبة في مقام آخر ملاحظة في غاية الأهمية تتعلّق بميل الكثير من كتاب الرواية في القرن الحادي والعشرين إلى جعل الرواية «نصا معرفيا بحدود ما يمكنهم توظيفه بحسب مناشطهم المعرفيّة وآفاق معارفهم وطبيعة رؤيتهم الفلسفية» للعالم وللوجود، ويأتي هذا التصوّر متماشياً مع قناعة راسخة بقدرتها على ممارسة دور «الحاضنة المعرفيّة» التي تزوّد أجيال العوالم الرقميّة بقدر معقول من المعطيات المعرفية المتجدّدة. وتتجلى أصداء هذا التوجّه في ظهور الرواية البيئية التي شاعت في ظل تعدّد الكوارث البيئية التي يشهدها عالمنا اليوم، بدءاً بالاحتباس الحراري وليس انتهاء بوباء كورونا، إضافة إلى التأثّر بما أحدثته التقنيّة وموضوعات الذكاء الاصطناعي من انعطافات كبرى في الفكر الإنساني، إذ صارت هذه القضايا تلقي بظلالها على عوالم الرواية وتسهم في هندستها، وأمام هذه التحوّلات لنا أن نتساءل عن حال الرواية العربية اليوم وأفق تلقيها.

تزيح لطفيّة الدليمي في هذا الكتاب التخوم التقليدية بين المعارف الإنسانيّة، مقترحة على القارئ العربي رحلة عبر أطياف المعرفة، خارج حصونها التقليديّة، بغية تمكينه من «عيش حياة طيبة» يؤثّثها الشغف ودهشة الاكتشاف وهاجس التساؤل، محاولة في السياق ذاته تأسيس تصوّر مختلف للثقافة في عالمنا العربي، يتجاوز القطيعة التقليدية بين روافدها المختلفة، يحدوها في ذلك أمل منشود بتوجّه الدول العربية نحو تأسيس اقتصاد معرفي قوامه «ثقافة تخليقية مستحدثة توظف الأفكار الجديدة في الحقول المعرفية الخاصة بالذكاء الاصطناعي وأصول الكون والحياة والوعي البشري والنظم الدينامية المعقدة، والتعلّم الآلي، والبيولوجيا التطوريّة» تماشياً مع ما تحدثه الثورات العلمية والتقنيّة من فتوحات غير مسبوقة في عالمنا اليوم.

*كاتبة من الجزائر

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

من منسيات النقد الأدبي في العراق

طقوس فارسية .. علامة فارقة في الأدب الإيراني

صلاح عباس: على مدى تاريخ الحقب الصدامية لم يشكل فن الحرب ظاهرة مميزة مثلما موجود في العالم

مقالات ذات صلة

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي
عام

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي

أنتوني غريلينغ* ، بريان بول** ترجمة: لطفية الدليمي أعلنت شركة OpenAI مؤخرًا أنّها تتوقّع مَقْدَمَ «الذكاء الفائق Superintelligence" - أي ذكاء اصطناعي يفوق القدرات البشرية - خلال هذا العقد ( العقد الثالث من القرن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram