TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > حلم بورخس الأخير

حلم بورخس الأخير

نشر في: 29 يونيو, 2010: 06:05 م

عبد الكريم يحيى الزيباريقرأ جوزيه ساراماغو كتاباً يذكر أنَّ بورخس في لحظاته الأخيرة، حين كان عاجزاً عن الكلام، بسبب يأسهِ، كان يبحث عمَّن سيعرضُ عليهِ أنْ يكتبَ له هذا النص، ولكنَّ أحداً لم يفعل، كما أنَّ أحدهم عرضَ عليه أنْ يقرأ له ديوانه الأخير، ومنذ الصفحة الأولى أدار بورخس وجهه نحو الجدار،
 وأشارَ بيدهِ إلى الضيوف أنْ يتركوه وحده، يريد أنْ يعيش صمت اللحظات الأخيرة، وحين أخذوه إلى مثواه، وجدوا هذه الورقة، ولكنَّ أحداً لم يدرِ: هل كان بورخس هو من دونها، أمْ أنَّ أحد ضيوفهِ الثقلاء كتبها، وتركها في الغرفة عامداً، كما أنَّ أحداً من النقاد لم يجرؤ على التأكيد أو النفي، خوفاً من مظلة الجهل: باعتبار الجاهل وحده دائم التأكيد، وهم يفتخرون راقصين بشعاراتهم من تحت مظلة العلماء، باعتبارهم دائمي التشكيك.في العالم التاريخي تولد الكائنات وتموت، وفي العالم الاجتماعي تتعاقب الإمبراطوريات وتتوالى الحضارات، في العالم السايكولوجي لستُ أنا نفسي منذ لحظة، ولن أكونها بعد لحظة أخرى، عزيزي وأنت تقرأ كتابي هذا، بالتأكيد سوف أكون غير موجود، وأنا متأكِّد أنني سأجن من جديد، لا يمكنني أن أتحمَّل تلك الأيَّام الصعبة ثانيةً، وأنا لن أتعافى أبداً هذه المرة، أنا أسمعُ أصواتاً ولا أستطيع التركيز، لذا أقوم بما اعتبره الحل الأمثل، الكتابة، عدا الكتابة ليس ثمَّـة ما يدهش في الحياة، وعدا اكتشاف معانٍ جديدة ليس ثَمَّةَ ما يُدْهِشْ في القراءة، و"عدا القراءة ليس ثمَّةَ ما يدهش كالأحلام، وليس للنفسِ ثَمَّةٌ، فَتُدْرِكُها، إلا في منطقةٍ بين الحلم وتأويله، والكتابة هي صلة الوصل الوحيدة بينهما.لقد منحتني الأحلام كل السعادة الممكنة، وكنت من كلِّ النواحي كافة، كل ما يمكن لأي شخص أنْ يكونه، اعرف إنني أفسِدُ حياتي الاجتماعية، غير آسفٍ، ودون أنْ أشعر بلحظة ندم، أنا أعرف ذلك، أ ترى؟ لا يمكنني أنْ أكتب جيداً، ما أريد قوله إنني أدين لأحلامي بكلِّ السعادة في حياتي، لقد كنتَ صبوراً جداً معها، وطيبا للغاية، لقد نسيتُ كلَّ شيء ما عدا حقيقة أنَّ الحياة مجرد حلم، لا يمكن أنْ أستمر بإفساد حياتي، بالاستمرار بها في ذلك الشكل التقليدي المخزي، كما أنني أشكُّ أنْ يكون أي شخص أكثر سعادة مما كنت عليه، خاصةً ولقد أدركت شيئاً من الحكمة.إنْ أقمتَ في الواقع المَعِيْشْ، فرَّ منك كالحلم، ولن تعرف بأنَّك سوف تبقى في كهفِ أفلاطون، ولهذا لن تحقِّق اتصالاً مع عوالم أخرى، ما لم تنفصل عن الواقع، كالدنيا لن تقعَ في يدكَ حبيسة، ما لم تطردها من قلبك، وإنْ أقمتَ في واقع افتراضي، ستحدث لك أشياء أخرى، كما أفعلُ الآن، حيث أحلِّق عالياً مع الصقور، وأغوصُ عميقاً مع كائنات غير مكتشفة، ولهذا فلن تجد لها اسماً، في جميع القواميس العلمية، كائنات غير عادية، لا يشعر بها سواي، وربما يوجد غيري على إطلاع بشأنها، ولكن لا أعرفه، ولا أعرف اينَ يسكن، ولكن استطعتَ أن تديمَ البقاء، سيحدثُ أنْ يسكنك الحلم وأنتَ واعٍ بكنهه، وأشياءُ أخرى، كاكتشافي للرؤية بوصفها......، وحدهما الصمت والحلم اللذان أحاول أن أكتبهما، لأنَّهما يمكن أنْ يُكوِّنا كشفاً عن الوجود بوصفهِ...... وأجمل أحلامي هو الذي أعرف بدايته، ولكن أحداً لا يعرف نهايته، لأنَّه كالحياة، كما في إحدى المرَّات، التي كنتُ فيها مسافراً، فأهداني أحد الحكماء السبعة، جزيرةً مُتخَيَّلَة، رأيتُ فيها أجمل اللحظات في حياتي.وحين استفقتُ من كلِّ هذه الترَّهات، "لم أعد أعرف ما الذي أملكه، كما لا أعرف ما الذي ينقصني، لكني أنتظرُ دوماً شيئاً ما، لا أعرف ما اسمهُ"، إِذْ يُغَشِّيني النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ، حلّت في روحي، فلم يعد لديَّ ما أخافُ منه، أوْ عليهِ، وَبَدَتْ لي ألفُ سنةٍ، حاضرةٌ في ذهني دُفعَةً واحدة، في دقائقها وثوانيها، ولحظاتها وانفعالاتها، وكوارثها، مع الصخور، مع الأحجار، مع الشجر، مع كلِّ الأشياء الأخرى المحتملة في ألفِ سنة. لا تخدمني اللغة في التعبير عنها، فاللغة لا تسمح بكلِّ شيء، واليوم صرتُ أشدُّ إمعاناً في الحُلُم، ولكن قبل تسعِ سنوات، حين بلغتُ الأربعين من عمري، بدأتْ الأوساط العلمية والأكاديمية العربية، تبدي إعجابها ببعض الأبحاث التي ألقيتها، وجاءتني الكثير من الدعوات، للعمل كأستاذ زائر، ووصلتني الكثير من الدعوات للمشاركة في اللجان التحضيرية لمؤتمرات علمية في الفلسفة وعلم النفس، وإلقاء محاضرات عن العالم الآخر الذي نعيشه: عالم الأحلام، ولتأشير المستوى العلمي لهذه المؤتمرات، أذكرُ حادثةً قصيرة، وهي أنَّ أحدهم وقف على المنصَّة ليعلِّق على أحد الأبحاث الخاصة بتبئير الرواية، واستشهد بقول للفيلسوف ميرسيا إلياد، مما جعلَ الأستاذ الدكتور يسأل السائل: هل ميرسيا ذكر أم أنثى؟ وأجمعوا على أنَّ الاسم يعود لأنثى، ولأنني كنتُ أحمل معي كتاب(أسطورة العود الأبدي)والذي ترجمه حسيب كاسوحة، ونشر عام 1990، في 240 صفحة، ولكن بسبب الظروف السياسية، والقطيعة بين بغداد ودمشق، لم يصل الكتاب المهم إلى أيدي الباحثين في بغداد، رغم مرور عقدين على صدورهِ، وجاهدتُ نفسي كثيراً كي لا أشاركُ في المناقشات التي حمى وطيسها، ثم عدتُ إلى غرفتي سريعاً وقبل نهاية الجلسة الث

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram