حيدر المحسن
العدد الذي صدر من المدى الأربعاء الماضي، وكان يحمل عمودي الأسبوعي ذا العنوان الكبير: «عالم محمد خضير». وكنت احرص للحصول على النسخة الورقية من الجريدة، ربما يعود السبب إلى السحر في أعمال أديبنا البصريّ، وخِلتُهُ انتقل إلى حرفي،
وتحولت الصحيفة إلى تحفة فنية من تلك التي يحرص الناس عليها في بيوتهم لأنها تؤدي عمل حجاب أو عوذة أو تميمة تطرد عنهم الشرّ. إن توفرَ شيء من سحر الفن مهم لإزالة التوتر الروحي لدينا، فإذا فُقِدَت هبة الفن هذه زاد شعور الإنسان بالخطر، وصارت الحياة قليلة مثل قضيب حديديّ أعمى، إما أن يُطرقَ به أو يُطرق عليه.
حاولت في المقال السابق دراسة القصة الأولى من تلك القصص التي وصفتها بأنها لم تدخل قلبي حتى بعد قراءتها للمرة الخمسين، وهي “تاج لطيبوثة”، وأجرّب اليوم قراءة القصّة التي فاقت شهرتها جميع ما كُتب في العراق وفي بقية البلاد العربية من قصص؛ «الصرخة»، رفعتْ كاتبها إلى مرتبة العالميّة، وكانت، منذ نشرها لأول مرة في سبعينات القرن الماضي، وما تزال، تُمثّل التحدّي الأكبر لقارئ القصة القصيرة، وقد يتمدد هذا الرهان ليشمل النقد، وشاء لي قدري أن أكون أحد المشتركين في هذا النزال، فهل يكون الفلاح من نصيبي؟
لا يوجد في القصة بطل، ولا شبه بطل، ولا توجد حبكة، ولا حوار، وليس ثمة حدث ينقطع عنده السرد عن الماضي والمستقبل، وهو الشرط الأهمّ في تعريف القصة القصيرة، كما يمكن للقارئ البدء من أي صفحة في النصّ، ثم يمضي بعد ذلك باتجاه اليمين أو الشمال، دون أن يختلّ معنى القصة، وكأن بغية المؤلف تحقيق أمر مستحيل، وهو كتابة قصة دون حبكة ولا شخوص ولا أحداث، ولا حوار، وليس فيها بالنتيجة معنى يخلص إليه القارئ الذي يروم قراءة قصة قصيرة.
«الصرخة» إذن هي نصّ اللا معنى، أو قصة اللا قصة. ونتيجة لهذا الإعجاز بقي هذا النصّ منفردا ومعزولا عن بقية أعمال الكاتب، فهو لم يحاول إعادة التجربة ثانية، كما أن تأثيره في الأدب العراقي والعربي لا يُذكر، وهكذا باتت “الصرخة”، وبعد نصف قرن من تاريخ كتابتها، مثل كوكب بارد وغير مأهول إلا من المستكشفين الذين ما إن تنتهي مهمتهم، يغادرونه، عائدين إلى أوطانهم دون رجعة.
كاد المؤلف أن يضع في هذه القصة فنا خالصا، وهذا يشبه المعدن الصافي الذي لا وجود له في الطبيعة، فلا بدّ من شيء من التراب أو الرمل والأكاسيد أو غبار الفلزات كي يتماسك المعدن ويكون قائما بنفسه. ووصل محمد خضير في «الصرحة» إلى المكانة التي بلغها جيمس جويس عندما قام بتأليف «يوليسيس»، وهي كتابة رواية فنية خالصة، ويُنظر إلى الأدب الذي جاء بعد هذه التجربة على أنه صدى لما كتبه الروائيون في الماضي، فلا يجد القارئ فيه رؤيةً بعيدة إلى مستقبل الأدب، لأن المستقبل بلغ في «يوليسيس» منتهاه. وهو يعبر الشارع، اعترضته إحدى القارئات، وهتفت به:
- روايتك ليست من الأدب الروائي في شيء. وأجابها جيمس جويس، متأسيا:
- لقد كان!
ينطبق هذا القول على هذه القصة تماما، فنحن نقرأ القصص التي كُتبت بعدها كأننا نعيش في الماضي، فهي النقطة التي انتهي بها زمن القصّ، وسوف يظهر حتما في المستقبل فن جديد يمثّل الحياة، ويرسم للتغييرات التي حدثت في كوكبنا منذ سبعينات القرن الماضي، زمن كتابة “الصرخة”. أما تلاحظون معي أن اهتمام القرّاء ودور النشر أخذ يقلّ تدريجيا بالقصة القصيرة منذ السبعينات. من يدري، إن تاريخ الأدب لا تصنعه الحروب أو الثورات، وإنما أعمال يكون لها في الفن فعل الثورة أو الحرب؟
وقبل الشروع بدراسة هذه القصة علينا الإلمام ببواكير اهتمام الكاتب بالفن التشكيلي، وهو أمرٌ يتطلّب منا دراسة أعمال الكاتب منذ أول قصة له.