عدنان حسين أحمد
يشكِّل فيلم Yaban علامة فارقة في رصيد المخرج الأفغاني طارق داوود فقد صوّره في شمال شرق تركيا مع أنّ الأحداث تدور في الشمال الغربي منها وتهدف البطلة للهروب عبر الحدود التركية - البلغارية إلى موسكو.
لا تقتصر ثيمة الفيلم على محاولة الهروب فقط وإنما تتعداها إلى الحزن والفراق والصدمة النفسية إضافة إلى ثيمة الأمومة التي تُعدّ المُهيمنة الفكرية لهذا الفيلم الدرامي الذي ينطوي على مغامرات متعددة يلهث بعض أصحابها وراء المادة، ويبحث بعضها الآخر عن الخلاص الفردي والنجاة بأقل الخسائر الممكنة.
تدور أحداث الفيلم على كلير “أميرة قصّار” البالغة من العمر 45 عامًا، وهي مُغترِبة فرنسية فقدت حضانة ابنتها صابرينا ذات الأعوام التسعة لمصلحة زوجها السابق، وهو أحد المشاهير المحليين في تركيا. وقد رفضت كلير هذه النتيجة وقرّرت التسلل مع طفلتها عبر الحدود التركية - البلغارية بواسطة مهرِّب تركي سوف يُعيد التفكير في مسألة كلير عندما يُدرك بأنه يستطيع تحقيق أرباح مُضاعفة إذا أعاد الطفلة إلى والدها الميسور الحال الذي أحدث ظهوره التلفازي ضجة إعلامية وصلت إلى كل مكان من ربوع البلاد. فلاغرابة في أن يختلق الأعذار ويؤجل عبورهما لبعض الوقت، وينقلهما إلى بيت متواضع في الغابة. وبما أنّ المهرِّب لا يعود فإن العُزلة واليأس يسببان لها الإحباط فتتخذ قرارًا شجاعًا لا يخلو من المجازفة بأن تُكمل رحلة العبور بنفسها لكن هروب ابنتها صابرينا وسقوطها على صخرة كبيرة في نهر ضحل المياه تضطرها إلى العودة ثانية إلى البيت المتهالك من أجل إنقاذ حياتها التي تعتبرها أثمن شيءفي الوجود. وفي قلب هذه العزلة يُتاح للأم وقتًا أطول لاستغوار عالَم ابنتها ومعرفة طريقة تفكيرها، فهي طفلة ذكيّة تمتلك مخيّلة واسعة ولديها أصدقاء خياليين تتواصل معهم كلّما انفردت بنفسها، وتبوح لهم بأسرارها. وبما أنّ الأم تسترق السمع في بعض الأحيان فإنها سوف تكتشف تباعًا بأنّ هذه الطفلة لها علاقة جيدة مع أبيها، وثمة أسرار لا تبوح بها هذه الطفلة لأمها وخاصة الكلام السيء الذي قاله الأب عن أمها مُدعيّة بأن كل شخص يمتلك بعض الأسرار ومن حقه الطبيعي الاحتفاظ بها لنفسه. وأكثر من ذلك فإن هذه الطفلة الذكية عرفت بحدسها أنّ أمها قد كذّبت عليها حينما أخبرتها بأنهما ذاهبتان لقضاء عطلة لبعض الوقت تبدأ من هذا البيت النائي الذي لا يتوفر فيه ما يسدّ الرمق لكن المهرِّب سيؤمِّن لهما الطعام في صبيحة اليوم التالي.
ينطوي الفيلم على عنوان إشكالي قد لا يُفصح عن المعنى الدقيق لأول وهلة، فكلمة Yaban تعني في اللغة التركية بريّة أو صحراء لكن أجواء القصة السينمائية توحي بما هو أبعد من وجود هذه السيدة الفرنسية المُغترِبة بين ثماني ضحايا ومهرِّب مُحترف، ولعل المعنى المجازي لهذه الكلمة هو “الغريبة” كصفة أنسب منها كاسم. فهي من جهة، كما تساءلَ المهرِّب، فرنسية وقادرة على السفر من أي محطة أو مطار فلماذا تلجأ إلى الهروب وتعرِّض نفسها وابنتها إلى مخاطر جمّة قد تصل حد الموت؟ لكنه ما إن تتبّع الضجة الإعلامية حتى عرف التفاصيل وقرر المضي في عملية الابتزاز. تقرر الأم مغادرة المنزل ولكنها لم تكن متيقّنة من نيّة ابنتها التي تفكّر دائمًا في العودة إلى أبيها حتى وإن لم تفصح عن ذلك وتشرعان برحلة محفوفة بالمخاطر وحينما يأخذ منها التعب مأخذًا كبيرًا تستريح الأم إلى جوار شجرة كبيرة وتستغرق في غفوة طويلة بعض الشيء وحينما تستفيق تكتشف أن صابرينا قد توارت وتركت حقيبة ظهرها الوردية على مقربة من الشجرة. ترتبك الأم وتبحث عنها مذعورة في كل مكان لكنها، لحسن الحظ، لمحتها وهي تحاول عبور النهر غير أنها سقطت فارتطم رأسها بصخرة كبيرة فسالت منها دماء كثيرة. تقرر الأم من دون تفكير طويل بالعودة إلى بيت الغابة لإنقاذ حياة ابنتها مهما كلّف الثمن. تتحسن الحالة الصحية للطفلة وتعاود حياتها الطبيعية في اللعب واللهو داخل المنزل وخارجه في بعض الأحيان. لا تتورع كلير من طرح موضوع العبور على عثمان، الشاب الذي يعمل لدى المهرب الأساسي أركان الذي يتخذ القرارات الحاسمة ولا شيء يتم بمعزل عنه. وفي أحد الأيام يقرر أركان الذهاب إلى منزل الغابة ومساومة كلير من جديد على أمل ابتزازها ثانية لأنه يعتقد أنّ النقود التي أخذها كانت قليلة جدًا طالما أنها زوجة رجل مشهور وثري. وبينما يتحاور عثمان مع سيده أركان يسقط في دائرة الغضب والانفعال ويحمل حجرًا كبيرًا ويضربه من الخلف على رأسه فيسقط جثة هامدة ملطخة بالدماء. يصل عثمان إلى بيت الغابة بعد أن صفّى حسابه مع سيده المهرِّب وقرر أن يأخذ على عاتقة تهريب الأم وابنتها. وبعد نقاش حميم يفضي إلى فكرة جانبية لا تقل أهمية عن الثيمة الرئيسة وهي الصورة الشعرية العميقة التي اجترحها الشاعر قسطنطين كفافيس حين قال:” إذا خرّبت حياتكَ في هذا الركن الصغير من العالم فهي خراب أينما حللت”. فهذا الشاب مُطارد في مكان عمله وفي قريته الجبلية القريبة من مدينة أرضروم ولا فرقَ لديه إن بقيَ هنا أم ارتحل هناك. ومع ذلك فقد عقد العزم أن يعود إلى قريته. يُفاجأ عثمان حينما يرى كلير لوحدها وعندما يسألها عن صابرينا تخبره بأنها ستعبر لوحدها وأنها تركت ابنتها في أيدٍ أمينة! تُرى، هل تمكنت صابرينا من الهرب ثانية، ونجحت في الخلاص من سجن بيت الغابة، أم أنّ الأم قد تركتها نائمة في الفراش كي تواجه محنتها لوحدها وتعود إلى حضن أبيها الذي يبدو أنها تفضّله على حضن الأم؟ ثمة نهاية غامضة ومفتوحة على احتمالات متعددة تُشرك المتلقي في استخلاص النهاية المثيرة. يتوقف عثمان عن نقطة قريبة من الحدود البلغارية وينصحها بعبور الأسلاك الشائكة وأخذ الطريق النيسمي الذي يفضي إلى حافة النهر حيث تتوارى بين الأحراش والأدغال السامقة. أما فهو فيلقي المسدس الذي أخذه من المهرِّب أركان ويقذفه من نافذة السيارة ويمضي في طريقه إلى قريته الجبلية النائية تاركًا المشاهدين وهم يفكرون بالمصير الذي أنتهت إليه صابرينا في قلب هذا العالم المتوحش الذي بدا خربًا في كل مكان بالنسبة لكلير ومُهرِّبها عثمان على حدٍ سواء.
ما يميّز هذا الفيلم هو اشتراك النجملة البريطانية أميرة قصّار Amira Casar وهي متحدرة من أب كوردي وأم روسية أكملت دراستها في مجمّع الفن الدرامي في باريس. تتقن أميرة عدة لغات وهي الإنكليزية والفرنسية والكوردية، وتسعى بشكل حثّيث لتعلّم الألمانية والإيطالية والأسبانية. اشتركت هذه النجمة بـ 54 فيلمًا سينمائيًا و10 أفلام تلفازية بضمنها بعض المسلسلات، ومن أبرز أفلامها “أن ترسم أو تمارس الحُب”، “العشيقة الأخيرة”، “الغرفة المحرّمة” ، “عند بوابة الخلود”، “نادني باسمي”، “أخوات السلاح” و “الليالي العربية”. رُشحت أميرة إلى العديد من الجوائز مثل السيزار والسعفة الذهبية، وفازت بجائزة الكولدن ريل في مهرجان كان السينمائي، كما فازت بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان لاروشيل السينمائي التلفازي. مَنْ يتأمل في أداء هذه الممثلة سيكتشف من دون عناء أنها قادرة على التعبير عن أي دور يُسند لها، كما أنّ معالمها الجميلة والعميقة تساعدها كثيرًا في تقمّص الأدوار التي تُسند إليها بالتعاضد مع خبرتها الطويلة وموهبتها الفنية التي تزداد توهجًا على مرّ الأيام.
لابد من الإشارة إلى إنّ المخرج الأفغاني طارق داوود قد غادر أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي هاربًا من الحرب التي اندلعت هناك، وقد استقر في جنينف ودرس فيها، ثم واصل دراسته في المدرسة الدولية للسينما والتلفزيون بهافانا في كوبا. ومنها انتقل إلى إستانبول حيث يقيم ويعمل منذ عام 2012م وحتى الآن. أنجز طارق عدة أفلام وثائقية وروائية قصيرة، وهو منهمك في فيلمه الروائي الطويل الثاني الذي يحمل عنوان SERIFE TAVSAN الذي حصل على منحة CNC لتطوير الأفلام في مهرجان إستابول السينمائي الذي احتضن فيلم Yaban ضمن مسابقة الرسمية في الدورة الحادية والأربعين التي طوت صفحتها قبل أيام قليلة.