TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لماذا أكل النهر قلبه

لماذا أكل النهر قلبه

نشر في: 17 نوفمبر, 2012: 08:00 م

ما عادت أسراب الحمام تسيُر على دجلة الخير عند غبش الفجر ووقت الغروب، وما عادت جنون النهر تهاجم شطآنه و تتلاطم على شفاه نزقا وعشقا..
 لماذا انطفأ صهيل النهر وهجرته النوارس.. وانطفأت جذوة العشق فيه؟؟ لماذا صمت النهر عن تراتيله وترنيماته البابلية؟؟ لماذا جزر ولم يمد وانكفأ على جرحه.. لماذا النهر أكل قلبه، فهدأت روحه وسكت ظمآن.. لماذا اختلت لغته وانكسر الوزن فيها؟؟ لماذا غادرته الأشرعة وأفخاخ الصيادين؟؟ لماذا شق الشيب صدره وهو لم يزل في عنفوان العمر؟؟ لماذا تغير وجهه وصار كالصفيح بلا ملامح؟؟ لماذا بطلت الأضواء ترقص كالجنيات في نهر، وغاب القمر؟؟ لماذا لا تكف السواحل خجلا من الانقضاض على أحشائه؟؟
هل صدق العرافون نبؤتهم وذُبحتَ يا دجلة منذورا من أجلهم لتختصر الدرب عليهم وتنكأ جرح بغداد الذي يفصل بين كرخها ورصافتها، أم أدخلوك حربا لا خيل لك فيها ولا جمل، لتظل تئن مكسور الضلع تشرب العشب خمرا وكأسك فارغة وأنت في أول الليل.
هل دخلت لعبة الحرب القديمة الجديدة حرب المياه، وترادفت على خواصرك سنابك خيلهم من كل متجه.. شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لتقطعك أوصالا، وصولا لتصلب أوردة العراق ويحط الجدب والعطش والجفاف مكان الزرع والخير والنماء، ويسكننا الحزن بديلا لأزمنة الفرح التي اعتادت أن تكون استثنائية في بلد النهرين، فقد ورثنا الحزن منذ قرون، منذ أيام الفيضانات التي كانت تشطر مدن العراق إلى شطرين، ويبلع الماء قرى ويهدم سدودا وتتناثر العائلات غرقا، أو فراقا، ومنذ ذاك الزمن استوطن الحزن فينا وتحول كل شيء فينا إلى شجن قاتل، واستحالت وسائلنا التعبيرية في كلتا الحالتين، الفرح والحزن، إلى دمع مسجور بحرق الروح والتلذذ بطعم الحزن وجلد الذات.. مازوشيين بامتياز .. رقصنا وأغانينا من عتابه وابوذيه ونايل، وصار الحزن رديفا للأغنية  والإنسان العراقي، وإذا انتشينا وضحكنا من القلب واغرورقت عيوننا بالدمع يتبعها صمت محفوف بهواجس الخوف (اللهم اجعلها ضحكة خير، وشرها على الغير)  بل تعودنا أن لا نقتنص لحظة الفرح كما ينبغي.
وهكذا يستحيل هذا الحزن إلى حزن آخر يكبر كبر الأحقاد التي تهاجمنا من الدول الإقليمية، التي لا تنفك عن تضييق الخناق علينا، وهي تشن حربا مائية ضروسا لتجفف منابع أنهارنا، وتسلبنا  ما  بنيت عليه حضارتنا واسمنا بلد النهرين، ونحن مستسلمون كأمر واقع، دوليا ومحليا، لا يتحرك لنا عرق، وحتى لا نرى ثمة محاولة من الجهات المعنية لمعالجة ما يحدث لدجلة الخير، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عمليات كري وتطهير وإزالة الجزر التي تتسع يوما بعد آخر في وسط النهر وجوانبه، ونسوا تجليات دجلة.. وجودا وتاريخا وشعرا، وكل ماله صلة بالحياة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: عندما يغط البرلمان بالنوم !!

العمود الثامن: أحلام الليبرالي الأخير

العمود الثامن: محبة عراقية

العمود الثامن: بين مستشار ومستشار

قناطر: من سقيفة بني ساعدة الى الساحل السوريّ

العمود الثامن: محبة عراقية

 علي حسين أتابع العمود الاسبوعي الذي تكتبه الصحفية والروائية إنعام كجه جي، وكنت ومازلت مغرماً بروايتها الساحرة التي تكشف لنا من خلالها عمق ارتباطها بوطنها ومحبتها التي تتعمق يوما بعد آخر بالعراق برغم...
علي حسين

السياسيون يدركون أن المهاجرين يدعمون الاقتصاد

نوربرتو باريديس ترجمة: عدوية الهلالي تشغل قضية المهاجرين مساحة متزايدة في المناقشات السياسية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، الذي من المتوقع أن يتلقى أكثر من مليون طلب لجوء هذا العام، وهو أعلى رقم منذ...
نوربرتو باريديس

الدروز بين الشرع وإسرائيل

عبد الرحمن الراشد تاريخياً، إيرانُ الخميني تعاونت عسكرياً مع إسرائيلَ، وكذلك فعل عراق صدام. واستقبل شيعةُ لبنانَ قواتِ إسرائيل ونثروا عليهم الرُّز والوردَ، ولجأ مسيحيُّو لحد إليها. إسرائيلُ خبيرةٌ في صراعات المنطقة، واليوم تعرض...
عبد الرحمن الراشد

العراق يستحقُ نظرةً موضوعيةً لمواجهةِ الواقعِ السياسي المضطرب

عصام الياسري انفعالات الرأي العام بسبب ممارسات الساسة المتسلطين وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والنفسي، متراكمة للغاية، وستشتد كلما ضاق أفق الأمل بالمستقبل وتعاظمت التحديات والضغوط الاجتماعية والقوانين السلبية وعندما تبلغ الانفعالات درجة النضج...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram