سلام كبة* فجر الرابع عشر من تموز 1958، وانا في الرابعة من العمر، لمحت الوالد يسير مسرعا ذهابا وايابا على سطح دارنا في بستان كبة، وسط رشقات من اسلحة اوتوماتيكية في الجانب الاخر من دجلة ... وبعد حديث قصير مع جيراننا أبي جميل (من اسرة كبة ايضا) من فوق السطوح .. طلب الوالد من امي ان تصحبنا الى باحة الدار السفلى وتنتظر افتتاح اذاعة بغداد ..
همس الوالد في اذنها :» انها الثورة .. سقط الملك!». هذه اللحظات لا تمحى من الذاكرة .. ونحن نستمع الى نشيد الله اكبر ، وبيان الثورة رقم (1).* اصطحبني الخال معه الى مطار بغداد الدولي (المثنى حاليا) لاستقبال الوالد بعد زيارته موسكو وابرام الاتفاقية العراقية- السوفيتية لعام 1959 التي وضعت حجر الأساس للتطور الاقتصادي اللاحق ولتحويل الصناعة العراقية من مشاريع صغيرة متفرقة الى جيل متكامل من المشاريع الصناعية الثقيلة والمتوسطة والخفيفة لتتكون مشاريع صناعية ستراتيجية مثل معامل الاسكندرية للمكائن ومصنع العدد الكهربائية، ومصنع الزجاج وغيرها، ولا يقل أهمية عن ذلك مشروع المسح الجيولوجي والتحري المعدني الذي حصر الموارد الطبيعية مثل الكبريت والفوسفات والرمل الزجاجي والأطيان الصناعية، واليورانيوم وأن بنسب قليلة. وشملت الاتفاقية مجالات التعاون في الميادين الزراعية والنفطية والصناعية وبحوث الطاقة النووية !.. لم نتمكن من الوصول الى الوالد لأن جماهير الشعب، التي كانت بالآلاف، قد اخترقت الحواجز الامنية واحاطت بالطائرة التي تقل الوالد وهي تهتف « ابراهيم كبة للامام .. ديمقراطية وسلام «.. حينها رفعني الخال على اكتافه لأراه وهو يحيي مستقبليه.في ساحة الكشافة جلست مع الوالدة والخال في مقاعد الضيوف لمشاهدة استعراض لكشافة وشبيبة انصار السلام ... كان الوالد قد اوصانا بالتزام الهدوء ومغادرة الفعاليات بعد نصف ساعة!.. لقد حضر الوالد بصحبة الزعيم عبد الكريم قاسم وبعض الوزراء الاخرين وجلسوا في المقصورة .. وفي مرآى منا بشكل واضح ! .. بعد دقائق ، ومع انشغال الجميع بالعرض الكشفي، تسللت تدريجيا نحو المقصورة، وعلى بعد امتار من الزعيم اعترضني شرطي حماية فبكيت صارخاً !.. سالني الشرطي : « من تكون ؟ .. اجبته : سلام . .. فرد غاضبا : اين ابوك ؟ .. فأشرت له نحو الزعيم والوالد «. «تصركع» الشرطي وجفل، وحملني باتجاه الزعيم. غضب الوالد كعادته وشرع يؤنبني، لكن الزعيم التقطني واجلسني في حضنه .. وعشرات الصور التذكارية التقطتها الصحف العراقية آنذاك!!* بعد استقالته، انهمك الوالد باعمال ونشاطات حركة انصار السلام ... وغالبا ما كان يصطحبني معه الى المكتب الرئيسي (قرب ساحة الاندلس وباتجاه ملعب الشعب اليوم).. تركز النشاط على تنظيم آليات عمل الحركة ومنشوراتها. عندها لم تغب عن ذهني اسماء محددة .. الجلبي، التكمجي، عزيز شريف، العبايجي، الجواهري، الماشطة، كوران، بحر العلوم، توفيق منير ... الخ.* رافقت الوالدة وعمتي مرارا بعد الثامن من شباط الاسود لزيارة الوالد في الموقف المركزي رقم (1) ومعسكر الرشيد .. كنا ننتظر احيانا من الساعة التاسعة صباحا (وفق الموعد المحدد ) وحتى الخامسة مساء قبل السماح لنا بمقابلة الوالد .. وفي ساعات الصيف اللاهبة !.. ولم تخلو هذه المقابلات من المفارقات المضحكة - المبكية .. الا ان الوالد تجاوزها بصبر ودراية .. برغم المعاملة القاسية وتغييب اصدقائه ورفاقه في غياهب المعتقلات من دون محاكمات، وحتى اعدام الشهيد الرفيق البطل متي الشيخ امامه في موقف المأمون !!.. « عصر احد الايام بعد الثامن من شباط الاسود وحملات التضامن القوية التي قامت بها وسائل الاعلام العالمي مع الديمقراطيين المعتقلين في العراق وبالاخص مع الوالد (انتشر خبر تصفية ابراهيم كبة في السجن) نادتني الوالدة الى غرفة الضيوف في دار خالنا في تل محمد .. قبلني رجل في مقتبل العمر (عرفت فيما بعد انه الاستاذ الكبير المرحوم عبد اللطيف الشواف)، وكذلك فعلت زوجته .. ووجه الشواف كلمته لي :» والدك رجل عظيم وخالد .. وانت تحمل سماته وسترفع رأسه عاليا !». اهداني الشواف سيارة - لعبة صغيرة !.... ورددت مع نفسي « انها صغيرة جدا، ولا يمكن ركوبها «. خرج الاستاذ عبد اللطيف الشواف وزوجته مسرعا من دار الخال وغاب حوالي النصف ساعة .. ثم عاد وقد اشترى سيارة - لعبة يمكن ركوبها وقيادتها ! وقال :» سلام ، انت تستحقها !». وشاء القدر ان نفتقد الاقتصادي الكبير والقانوني المعروف عبد اللطيف الشواف والوالد ابراهيم كبة في تواريخ متقاربة !! ...مفارقة مؤلمة! السياسي والإقتصادي المرحوم عبد اللطيف الشواف وزير الإقتصاد في عهد قاسم هو إبن عم المرحوم اللواء الطبيب محمد الشواف وزير الصحة في حينها !! وبقي المرحومان وفيين لقاسم إلى آخر لحظة من حياتهما. انا لله وانا اليه راجعون ..* بعد اطلاق سراح الوالد اثر عفو رئاسي في عيد رسمي 1965 .. أخذ الوالد يتردد على عيادة الدكتور الطبيب احمد جعفر الجلبي (ابو سلام) في الصالحية مقابل السفارة الايرانية ليلتقي ويجتم
والدي.. ذكريات شخصية
نشر في: 30 يونيو, 2010: 04:39 م