استنادا إلى المفتش العام لإعادة إعمار العراق، هناك ثلاث مراحل للفساد في البلاد. الأولى كانت في ظل نظام صدام حيث انه استخدم الفساد لتقويض العقوبات الدولية التي فرضت عليه بسبب غزوه للكويت عام 1990 وفي الوقت نفسه لإغناء الدائرة الداخلية المقربة إليه.
يطلق المفتش العام على هذا النوع الفساد المسيطر عليه والموجه من قبل الدكتاتورية.
بعد سقوط النظام جاءت فوضى النهب والأعمال المسلحة والحرب الأهلية. كانت تلك الفترة تتميز بالفساد الفردي حيث حاول المسؤولون العراقيون الهرب بما يستطيعون من المال العام مادام ليس هناك حكم حقيقي للقانون. لقد تغير ذلك اليوم، حيث يشير المفتش العام إلى الفساد السياسي والمؤسساتي إذ أن الأحزاب السياسية تستغل سخاء الحكومة المتزايد الذي نتج عن ارتفاع الإنتاج النفطي وعوائده من اجل إغناء أنفسهم ومناصريهم وأتباعهم، مما جعل من المستحيل احتواءه لأن كل قوائم السلطة تستفيد من هذا النظام ولا يوجد سبب لمنعه.
من الأمثلة على كيفية تحول الفساد إلى فساد مؤسساتي في العراق اليوم هو التلاعب بالعقود الحكومية ومزادات العملة. قبل استقالته في أيلول 2011، كان رئيس هيئة النزاهة – التي تعتبراهم هيئة لمحاربة الفساد في العراق – القاضي رحيم العكيلي يعمل مع المفتشين العامين وديوان الرقابة المالية في التحقيق بمئات الشركات الوهمية التي أسسها سياسيون وأحزابهم، فوجدوا انه كلما تم توقيع صفقة كبيرة في بغداد فأنها كانت تشمل بعض تلك الشركات. أحيانا كانت الشركات تبدأ العمل ولم ينجز منه إلا القليل، الا ان اغلبها كانت تهرب بالاموال التي استلمتها. نتيجة لذلك بقيت مشاريع كاملة لم تنجز رغم الاعلان عنها لأنها ببساطة قد تأسست لإغناء النخبة الحاكمة من خلال هذه الشركات الوهمية. اكتشف ديوان الرقابة المالية ان الكثير من الاموال المستخدمة في هذه الاحتيالات قد أرسلت خارج البلد الى حسابات في مصارف اجنبية. الشركات الوهمية تقدم اوراقا مزورة للمصارف مدعية ان لديها معاملات تتطلب ارسال المال الى الخارج مثل استيراد مواد من بلد آخر. هذا الاحتيال سمح للاحزاب بنقل المال العام المسروق الى خارج العراق. كما اكتشف ديوان الرقابة بان تبادلات العملة كانت تستخدم لغسيل الأموال أيضا. كان المسؤولون يستخدمون المال الذي كسبوه بطريقة غير قانونية لشراء الدولار الأميركي الذي يباع يوميا في مزادات البنك المركزي باستخدام أوراق مزورة. ثم يتم نقل الدولارات الى حسابات أجنبية بنفس الطريقة التي تستخدمها الشركات. خمن ديوان الرقابة أن من بين المليار دولار التي تباع كل اسبوع هناك حوالي 800 مليون دولار يجري تبييضها ونقلها للخارج. استقال القاضي العكيلي عندما ذهب إلى المحاكم بهذه الأدلة لكنها رفضت اتخاذ أي إجراء. وبما ان السلطة القضائية قد أصبحت مؤخرا تحت سيطرة رئيس الوزراء نوري المالكي، فإنها اليوم أكثر ترددا من أي وقت مضى في تحدي الأمر الواقع. استمر ذلك من خلال نظام المحاصصة في الحكومة العراقية. فبعد كل انتخابات منذ 2005 تتقاسم الأحزاب التي تفوز بمقاعد برلمانية المواقع الحكومية نزولا الى المناصب الادنى، ثم تشرع بأخذ قطعتها من الكعكة عن طريق تنفيذ هذه العقود الاحتيالية، بعدها تقوم بغسيل الاموال المسروقة ونقلها الى حسابات في مصارف اجنبية. كل حزب يغني نفسه ويرضي مؤيديه ويجرد المواطنين والبلد من التطوير الذي هم بأمس الحاجة اليه.
وجد المفتش العام أن هيئات محاربة الفساد يتم إضعافها أيضا من خلال التدخلات السياسية؛ فالقاضي العكيلي مثلا ادعى بأنه سيتعرض للاتهام بالفساد قبل استقالته، وقال إنه متهم بإعطاء معلومات لا يسمح بها القانون عن نشاطات هيئة النزاهة إلى الولايات المتحدة، وتناسوا أن هذا كان مطلوبا من مفوضية تتلقى مساعدة من الأميركان. فيما بعد تمكن رئيس الوزراء من ترشيح بديل للعكيلي –عزت توفيق– مما منحه سطوة على هيئة محاربة الفساد. هذا لا يعني ان الهيئة ستتوقف عن التحقيق في الابتزاز الا انها ستكون مترددة او غير قادرة على قبول القضايا الكبيرة او على إثارة حفيظة رئيس الوزراء الذي باستطاعته التخلص من توفيق بسبب ذلك.
يبدو أن الأمر يتحول من سيئ الى أسوأ فيما يتعلق بالفساد، فالمحسوبية والرشوة والسرقة مستمرة على مدى الثلاثين سنة الماضية؛ حيث امتدت من الدائرة الداخلية لصدام وحزب البعث الى افراد استغلوا الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السابق الى اليوم حيث يأخذ كل حزب في السلطة المليارات من المال العام في كل عام، دون ان تبدو في الأفق نهاية لذلك.
لقد تأصل الفساد في النظام الحاكم لدرجة يبدو من الصعب اجتثاثه لعدم وجود سبب يدعو الى ذلك؛ فما دام الكل مستفيدين، ليس هناك دافع لاتخاذ أي اجراء بشأنه. لهذه الاسباب يأتي العراق في مراتب متقدمة كواحد من أكثر عشرة بلدان فسادا في العالم، لأن القليل من البلدان الاخرى قد وصلت الى هذا المستوى والى هذا العمق من الابتزاز والفساد المتأصل في نسيج المجتمع بأكمله.
عن : افكار عن العراق