لطفية الدليمي
هل هناك من علاقة بين العوالم المتوازية الممثلة بـ «قطة شرودنغر» والفن الروائي؟ لو تذكرنا أن ألوان النثر المعروفة تندرج في واحد من تصنيفين رئيسيين :
الكتابة التخييلية Fiction (أي الكتابة الروائية بكل ألوانها)، والكتابة غير التخييلية Non – Fiction، فسيبدو واضحاً شكلُ العلاقة بين الفن الروائي والعوالم المتعددة (المتوازية)؛ إذ أن الخيال في التحليل النهائي ليس سوى تخليق عالم موازٍ لعالمنا الحقيقي. يترتب على هذه الحقيقة نتيجة مؤثرة تكشف لنا خطل النظرة التي ترى وجود فارق جوهري بين طبيعة العلم والأدب، وقد بات كثيرون يرون فيهما رافدين ينبعان من مصدر واحد وينتهيان في مصب واحد، والرافد والمصب هنا كناية عن الخبرة البشرية الشغوفة والمتنامية إلى حدود لانهائية.
ربما صارت (قطة شرودنغر) مثالاً يندرُ من لم يسمع به ؛ لكنّ الغالب هو استخدامه كمثال غارق في الدراما يشي بالمسحة الفنتازية التي ينطوي عليها العلم المعاصر - وبخاصة في ميدان الميكانيك الكمومي Quantum Mechanics - من حيث مخالفة البداهة العامة. لابأس أن أوضّح قليلاً شيئاً عن الخلفية المفاهيمية لقطة شرودنغر هذه.
ألقى شرودنغر) 1887 – 1961) عام 1952 محاضرة عامة في مدينة دبلن (العاصمة الإيرلندية) حذّر فيها مستمعيه من أنّ ماسيقوله في هذه المحاضرة قد يبدو ضرباً من الجنون بعض الشيء، ثم مضى في تأكيد أنّ حلول معادلته الشهيرة (معادلة شرودنغر) التي جاءت له بجائزة نوبل إنما تصف تواريخ مختلفة عديدة (أي عوالم متعدّدة بالمعنى السائد في اللغة غير التقنية)، والمثير في هذه العوالم أنها ليست بدائل عن عالمنا الذي نعرف بل هي عوالم حقيقية تعمل بصورة متزامنة. جاءت إشارة شرودنغر هذه لتكون واحدة من أبكر الإشارات إلى مفهوم العوالم المتوازية (أو المتعددة) الذي وضعه هيو إيفيريت Hugh Everett في أربعينات القرن الماضي ثم دعمه فيزيائيون عديدون من أمثال برايس ديويت Bryce DeWitt و جون ويلر John Wheeler ؛ أما في العقدين الأخيرين فيعتبرُ ديفيد دويتش David Deutsch أحد كبار الفيزيائيين الداعمين لنظرية العوالم المتعددة، وقد عرض آراءه بشأنها في كتابه (نسيج الواقع The Fabric of reality) الذي يراه الكثيرون من فلاسفة العلم كتاباً تأسيسياً لنظرية المعرفة الحديثة. ربما يتصوّر بعض القرّاء أنّ هذه الآراء ليست سوى شطحات فكرية لبعض علماء الفيزياء النظرية ؛ لكن هذا التصوّر سيتراجعُ إذا ماعرفنا أنّ دويتش هو مؤسّس فكرة الحوسبة الكمومية التي يُعوّلُ عليها في تخليق الحاسوب الكمومي ذي الإمكانيات الجبارة بالمقارنة مع الحاسوب العادي في أوقاتنا هذه.
تمثل رواية (بول أوستر) المسمّاة (1234) مثالاً نموذجياً للرواية الجوّالة في عوالم متوازية : يتناول أوستر في هذه الرواية سنوات مفصلية أربعاً في حياته ثم يعيد رواية الوقائع الحاصلة بعد كل سنة مفصلية منها بطريقة تخييلية، والنتيجة هي أربعة عوالم مختلفة كان يمكن لأوستر أن يحياها في العالم الموصوف بالعالم الحقيقي. ماذا لو أنّ كلاً منّا خلق لنفسه عدداً من العوالم التخييلية الموازية الممكنة، ثم وصف هذه العوالم والخبرات المتحصلة منها في شكل روائي؟ كان عالمنا حينئذ سيصبح أكثر ثراءً، ولكان أفراده سيتحصلون على ألوان متعددة من خبرات لايمكن تخيلها فضلاً عن ترسيخ أهمية الفن الروائي ونقله إلى قطاعات أوسع من البشر.
يترتّبُ على حقيقة إمكانية كون الرواية حفراً معرفياً في عوالم متعددة (متوازية) بعض المترتبات الجوهرية، ومنها أنّ الرواية يمكن أن تكون أداة بحثية ؛ إذ يُلاحَظُ في عصرنا الراهن خفوت الجانب البحثي الإستقصائي المتّسم بالفضول المعرفي لدى معظم أفراد الجنس البشري وفي كافة المجتمعات سواء أكانت متقدمة أم متخلفة، وربما يعزو البعض هذا الأمر إلى أن المهمة البحثية الإستقصائية واجب تنهض به المؤسسات الخليقة بأداء هذا الدور (الجامعات ومراكز البحوث العلمية والتقنية والإنسانية) ؛ غير أن وهناً ملحوظاً أصاب مراكز البحث التقليدية هذه وبخاصة بعد شيوع المعرفة الرقمية التي ستعمل مع الزمن على قلب الموازنة لصالح التعليم الفردي من منصّات ألكترونية، وقد سبق لهذه المعضلة الإشكالية أن كانت مدار بحث مكثف بلغ حدّ أن أشار أحد العلماء أن الرواية يمكن أن تخدم كأداة بحثية تعمل على المستوى الجمعيّ كأحد البدائل المقبولة لخفوت الشغف الإستقصائي عند الفرد المعاصر الغارق في دوّامة حضارتنا الرقمية المتصاعدة.
* * *
يقدم لنا الروائي والصحافي البريطاني مات هيغ (Matt Haig) في روايته الأخيرة (مكتبة منتصف الليل The Midnight Library) المنشورة عام 2020 والمترجمة إلى العربية أوائل عام 2021) ما يرتقي لأن يكون ترحالاً بشرياً في عوالم موازية للوجود البشري الحقيقي، وبطريقة يمكن أن تكون ملاذاً خلاصياً لبعض البشر المأزومين في حياتهم. لا يبدو هذا الأمر غريباً على هيغ ذاته؛ فقد عانى منذ أوائل مراهقته وشبابه من اعتلالات نفسية مختلفة (قلق، ظواهر اكتئابية، نوبات ذعر) سبق له أن تناولها في أعماله السابقة، ومنها الأعمال التالية المترجمة إلى العربية :
- ملاحظات عن كوكب متوتر Notes On A Nervous Planet، 2018
- كيف توقف الزمن How to Stop Time، 2017
- أسباب للبقاء حياًReasons To Stay Alive 2015
فضلاً عن أعمال روائية وغير روائية عديدة أخرى خصص بعضها للأطفال.
تبدأ رواية «مكتبة منتصف الليل» مع نورا التي ترغب في وضع حد لحياتها بعد أن فقدت كل دافع للحياة وترسخ شعورها بعدم رغبة أي أحد في إدامة علاقة إنسانية معها. الحياة بالنسبة لنورا صارت عبئاً مملاً يبعث على الجنون، ولم تعد ترغب في تناول المزيد من مضادات الاكتئاب.
تجد نورا نفسها في أحد الصباحات وسط مكتبة متخيلة لانهائية بدلاً من أن تكون في الجنة أو الجحيم، والمكتبة هنا تقوم في الحد الرقيق الفاصل بين الحياة والموت، وتمثلُ ملاذاً لهؤلاء الذين يجدون أنفسهم عالقين بين الحياة والموت، ولا يعرفون تماماً في أي اتجاه يمضون. ليس صعباً على القارئ أن يحدس نوعاً من التماثل بين المكتبة هذه ومطهر دانتي .
المكتبة ضخمة إلى حدود لانهائية، وليس فيها سوى رفوف ممتدة من الكتب والسيدة إيلم التي كانت تعمل مسؤولة عن إدارة مكتبة المدرسة التي واظبت نورا على الدوام فيها. تخبر السيدة إيلم، نورا أن كل حياة بشرية إنما هي بضعة ملايين من القرارات التي يتخذها صاحبها، وأن بعض تلك القرارات قد تكون كبيرة في مفاعيلها المؤثرة في حياة صاحبها، وبعضها تكون قليلة التأثير؛ لكن جميعها تنتجُ تأثيرات لا يمكن عكس مفاعيلها لاحقاً، ويقود كل تأثير إلى سلسلة لانهائية من التأثيرات اللاحقة التي لا سبيل لنا لمعرفتها جميعاً (سواء ما يخصنا منها أو ما يختص بأناسٍ سوانا)، وليست الكتب سوى مداخل تتيحُ لنا فرصة رؤية حيواتٍ بشرية أخرى كان يمكنُ لنا أن نعيشها لو اتخذنا قرارات مختلفة عما فعلنا. الكتب بهذا المفهوم هي عوالم موازية لحيواتنا البشرية الحقيقية.
مثلما أن هذه المكتبة هي موئلٌ لرصد الاحتمالات الممكنة التي يمكن لحياة المرء أن تتخذها فهي في الوقت ذاته مكان يستطيع فيه المرء إبداء الأسف والندم على أنماط حياة لم يختبرها؛ لكن ما يقدمُ بعض السلوى والعزاء له هو اختبار تلك الاحتمالات ورؤيتها متحققة في كتاب يمثل تجربة عيش لكائن حي آخر في هذا الكوكب. المكتبة إذن بهذا الوصف (أو الكتب في العموم) هي وسيلة الإنسان في الترحل عبر عوالم عديدة بكيفية تقديم عزاء للشخص المكتئب أو المسكون بالخيبة والخسران. المقاربة العلاجية هنا واضحة : إذا لم تعش أنت تجربة في هذا العالم؛ فثمة واحد على الأقل عاشها، وهو يُبدي قدراً غير قليل من الكرم عندما يقدم لك خبرته. الكتابة فعلٌ ينم عن كرم وأريحية ورغبة في فتح آفاق جديدة أمام الكائن البشري.
تمتاز رواية «مكتبة منتصف الليل» بخصيصتين مميزتين: الأولى أنها تنتمي لفئة الرواية المعرفية/ النفسية التي صارت صنفاً رائداً في رواية القرن العشرين. أما الخصيصة الثانية فهي اعتماد الروائي حبكة خطية من غير التواءات جانبية أو مسالك التفافية تسعى لملاعبة الزمان والمكان والعوالم الحقيقية أو المتخيلة. كتب بعض النقاد الروائيين والمعلقين الأدبيين أن هذه الرواية تشابه حكايات الجنيات؛ لكنهم اتفقوا أن هذه الحبكة الخطية المباشرة والثراء الحكائي إنما يضيفُ قيمة للرواية ويعلي شأن الخبرات التي أراد الكاتب نقلها إلى القارئ.
تقدم الرواية خبرة كبرى للقارئ، وإذا ماكان القارئ على دراية معقولة بالعلم والفلسفة ومبحث الاضطرابات النفسية فستتعاظم مستويات شغفه بالرواية. لندقق - مثلاً - في هذا المقطع الذي تتأمل فيه نورا وضعها المعرفي وحالتها الذهنية:
« كانت نورا قد قرأت حول العوالم المتعددة، وعلمت بعض الشيء القليل عن علم نفس الجشتالت (Gestalt)، وعن الكيفية التي تستطيع بها الأدمغة البشرية التعامل مع المعلومات المعقدة بشأن العالم وتحويلها إلى منتج نهائي بسيط؛ لذا عندما ينظر شخص نحو شجرة فإنه يترجم هذه الرؤية إلى كتلة معقدة من الأوراق والأغصان ويحولها إلى شيء يدعوه «شجرة». أن تكون إنساناً يعني أن تعمل بطريقة حثيثة لا انقطاع فيها على تحويل العالم إلى حكاية مفهومة قادرة على إبقاء كل شيء بسيطاً «.
يقودنا هيغ في هذه الرواية عبر مسارات كئيبة أو حزينة؛ لكنها تبقى مكتنفة بالتفاؤل الفلسفي والإمكانات المنطقية التي تتيحها العوالم المتعددة. هذه الرواية هي مجموع حكايات مأساوية؛ لكنها تظل مآسي يمكن تمثلها والعبور عليها نحو إمكانيات لانهائية لم تُختبر بعد. ثمة في الرواية حزن وشعور باللاجدوى، وهذه بعض صور الشعور الذي يختبره الإنسان في حياته ؛ لكن في مقابل هذا الحزن يوجد الكثير من جلسات التأمل الرقيق، والمفاعيل المؤذية الناجمة عن الشهرة، ووجوب احترام كرامة الحياة البشرية لكل فرد مهما صغر موقعه في سلم التراتبيات المجتمعية، وثمة أيضاً الكثير من المقتبسات الفلسفية (درست نورا الفلسفة في المدرسة)، ويوجد الكثير من التفكر الهادئ حول الأهمية الفلسفية لإضفاء معنى على حياتنا، وهنا نلمح هذه الخبرة المكثفة التي يقدمها لنا الروائي (وهي الخلاصة العميقة للرواية): ليس مهماً أن يتخذ شعورنا بالمعنى نمطاً متجسداً أمامنا ؛ بل يكفي فقط أن نفهم ونقتنع في دواخلنا أن كل مايمكن تخيله يمكن أن يحصل في هذا العالم لنا أو لسوانا.