حيدر المحسن
يحتاج الباحث إلى جميع مناهج النقد إذا رام التّصدّي إلى إرث محمد خضير الأدبي. المنهج النفسي، مثلا، يقدّم لنا العون عند دراسة قصة “أمنية القرد”، وفيها يجرّب القاصّ حريته القصوى للتّعبير عن احتياجات شخوصه العميقة اللاّواعية، ويفسّر المنهج الاجتماعي حقيقة أنّ الغائبين وحدهم هم الذين يعيشون في قصص “المملكة السوداء»، وصمتهم يملأ أرجاءها.
أمّا الحاضرون فكأن أذهانهم صادرها الشّخص الغائب، مهجورون من قبله، وقلوبهم مفطورة، يقضون أيامهم بالسفر في رحلات داخلية تأخذهم عن الوجود، ويقوم الكاتب بتسجيل وقائع هذه الرحلات، ويقدمها لنا على أنها قصص.
هيمنة الطّبيعة الغائبة على الجوّ في الكتاب، تدعونا إلى أن نطلق عنوان المجموعة على أيّ من قصصها، فالأسود هو وطن الظّلام، يأتي منه الغائب في الأحلام، وإليه يذهب ليتوارى، ويعيش أبطال القصص وهم يحاولون تحطيم أصنام يرونها تلاحقهم أينما اتّجهوا، ويبدو النّصّ عند تحليله وكأنّه نقد للحياة أكثر منه تصويرا لها. من القائل إننا نعيش مع الأموات أكثر ممّا نعيش مع الحاضرين؟ لكن الكاتب لا يعلن صراحة عن موت الغائب، ويترك للقارئ التوصّل إلى الأمر عن طريق الحدس. إن القاصّ لا يتعامل مع الأشياء في الوجود بطريقة طبيعيّة، وإنما بالإشارة إلى رموزها، وكذلك الحال مع الأحداث والأفعال، ذلك أن رمز الشيء أكثر تمثيلا له في هذا الوجود المجهول والمضطرب.
ظهرت “المملكة السوداء” في الستينات، وكان وقعها على الوسط الأدبيّ صادما، فالقارئ لم يعتد هذه الطريقة من السرد، وكل ما يعرفه عن القصة أنها تشرح حالة شعورية، أو تصوّر حدثا معيّنا، ولا شيء غير ذلك. لكن الفنّية العالية التي جاء بها محمد خضير أدّت دور شمس الصيف القويّة التي تخفي أكثر ممّا تُفصح، ووجد الجمهور نفسَه واقفا أمام قصص كُتبت لا من أجل أن تُفهم، بل كي تُرى، وإذا حاول القارئ تفسير رؤاه اصطدم بمجموعة رموز يشترك الواقع والخيال في صناعتها، واليقظة والحلم، والحياة والموت... وقام المؤلف بتكديس الرّموز واحدا بعد الآخر، ويتوه القارئ في غابة من الرّموز لا يعرف سبيله فيها، فالوسادة في قصة “المئذنة” لم تعد هي ذاتها عندما تُعرض بهذه الصّورة:
«إلى جانبها كان مكان زوجها فارغا، وكانت وسادته الريش التي تحتل جزءه من البساط تستكين كقلب أبيضَ تُرك ليشاركها قيلولتها واغتسالها في عتمة البرودة”.
الاستعارة هنا أكثر من شعرية، فالوسادة هي قلب، وهذا له لون البراءة والحضور الدائم، ويحاول الكاتب جرّ القارئ إلى مشاركته اللعبة الجديدة المبتكرة، وهي رسم الصّورة الوصفيّة بأدوات فنّ الرسم، ويمكننا عدّ هذه الصفحة، وهي الأولى من الكتاب، مدخلا لما سوف تجري عليه الأمور في “الصرخة”، حيث يزداد استخدام عصير الكلمات إلى منتهاه، من أجل رسم لوحات فنية تتكون منها القصة، وتغدو هذه في النهاية شبيهة بمعرض فنيّ -كاليري- تُنشر فيه اللّوحات للجمهور على الجدران.
في قصة “المئذنة”، تعيش المرأة، البغيّ في السابق، والمتزوجة في الوقت الحاضر، في عالمين مختلفين، تسيّرها قوى غامضة لا تستطيع التفاهم معها، وكأنها إنسان بدائي تملي عليه الطبيعة أسئلتها، ولا تجد في مواجهتها غير الخواء، يسكن ذهنها الفارغ: “كانت متوحّدةً، مقذوفة خلف الأسيجة البشرية؛ وفي الأعلى حين تمرّ بها الأقدام دون انقطاع فكأنها تسمع ترجيع نبض الوسادة - القلب يشدها لحضور زوجها الخفي”.
إن التجديد الذي ابتكره محمد خضير أدى بالقصة إلى أن تضع في بؤرتها الحقيقة العميقة لحياتنا، أي جوهرها، وكلما اتسعت عدسة الكاتب، زادت لذّة الاكتشاف لدى القارئ، وإذا بالحالة الشعورية التي تشرحها القصة، والتي كان يكتبها أشهر كتّاب القصة في ذلك الزمان، يستبدلها كاتبنا بتمرين من مشاعر صراع يغمِر فيها شخوصَه، ولا يقدّم الكاتب حلولا لها كي تخرج من هذه الأزمة، وليس بمقدور القارئ، بالطبع، إنجاز هذه المهمّة.