طالب عبد العزيز
إن كنتَ منحتَ ظهرَك النَّخلة العيطاءَ تلك، وبلغتِ النداوةُ حَقويك، فقد اوقدتُ النار، وأمرتُ الظلال أنْ تُجْبى اليك وتجيئ، فصارت السنبلةُ أغنيةً، وتخلّى عن غضبه ماءٌ كثير، فأنا أروّضه بالحطب والاغنيات، منذ حين، حتىى صادفني قولٌ لا أذكر صاحَبه،
ما لي وللتذكر، لكنني صرتُ أصغي للأغنية بصوت السنبلة، فتمايلتُ، واهتزَّ في جِذعي سعفٌ كثير، لم أشأ حرقَ واحدة، تركتها بعصافيرها وفواختها فتعال، اكتبني، ثانية، علّني اهتدي، علَّ إبريق الشاي ينشفُ بيننا، علَّ شجرة الأكاسيا تنقاد من مكانها هذا الى قلب من لا يُحسن في الركن القصي من الارض ذاك صنعةً، إلا ما نعافه ونزهد به.
تسلبنا نارُ الموقد فرصة تامل شجرة العرب، وهي تتوقدُ حمراءَ، لاهبةً، بزهر كثير، هي تنوش السياج أو لا تنوشه، تصعده من ثلمة الآجر، فتتمكن منه، لكنَّ الاطفال يقطفونها كلما صاروا الى المدرسة ذاهبين وآيبين، وكلما انتظموا أمامَ دكانة بائع الحلقوم بالجوز. في كلِّ مرةٍ تدفع بي الى حكايتك، فأقفُ عند حدود السهر والشجن وأقلام الحناء، احصي ندمي وشتائم العائدين من السوق، الذين لم يدخروا ليوم الجمعة كلمة صادقة، فأنا في أثرهم ما زلتُ، وفي أثر نفسي ارعى عشب المعاني، وأسوقُ خيل الكلمات، ومن عطفةٍ هي الاقرب الى المسجد رأيتك تغرسُ حلماً، صعد منارة السَّراجي القديمة، تطاولها الى الزرقة والقاشان، الى هناك، الى حيث تصطرع الاهلة، وتتفادى القلوب سهام المعاصي والاخطاء.
أخضرهُ على كتفيك، وأصفرهُ آت، قلتُ: وأحمره بيد الغيب، والغيب صلصال الوجد بيد فاطر السموات، فانظره في قوته ورحمته، أدخله في جبروته ولطفه، ولا تنتف شعر لحيتك، لا تحكَّ ظهرك بمنجلك الصدي، ولا تترع كاسك أكثر، فتقعد أشعثَ مجنونا، فما الهبوب للريح إلا لتهدأ، ويسكنَ روع الفواخت، وما خربشة الماء في النهر لتُغرق أحداً، هي ما تشوقت الارض، وتاقت اليه، وأنظر، لا يقطف صاحب الحقل ليمونة لتلذع لسان طفل، أو لينعم سكران، وما الفلاح بمغضبها، حمامةَ النخل إن جذَّ سعفةً، وتبعثرت مناقير ووشوشات، وما وقوف العاشقة الطويل في شرفتها لحصب النجوم، كذلك أنا، لم أوقد النار إلا لتجيئ، لأسمع عنك ما جاءت الاغنية به، وما تفرّق على التربة من ظنونك، فقد اخترفَ القلبُ ثمرَ الرجاء، كيف لا؟ وقد أخرجنا معاً رشاءَ الاملِ من بئر الانتظار، كان طويلاً. نعم، لكنه نديّ، وبزهر كثير.
لي أنْ أقول بانَّها أعطتني من مخاضِبِ قلبها الكثير، وملأت يدي تمرا وقمحاً، لو شئت ما أنفذتهُ فروجُ أصابعي، لكنها الارضُ تستودعُ المباهجَ مثلما البذور والاسرار، وتنطبقُ على الخطايا، مثلما تنطبق بتلاتُ الزهر على المتوك، فتعالَ أريك ما بذرتُ وأفنيتُ أياميَ فيه، وما لم اجنِ منه إلا ما نما واخضر وأزهر في الفيافي البعيدة تلك، فبربك ما أنا صانع بهذا كله، وقد أخْوَصتْ نخلةُ الكلمات، وكنتُ تفيأتُ من ظلالها ما تفيأتُ، أخضرَ ويابسا، ترى أما آن أنْ تلوّنَ زنبيلَ اسراري جفنةُ صبرك، بما فيها من الشكول والألوان، مائعاً كانَ او صلباً، فقد شاكتني شوكة الايّاب، وخضعت شمسُ روحي، واختط أحدُهم الدار.