اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: أكتبْ كلمتك الطيبة وامضِ

قناديل: أكتبْ كلمتك الطيبة وامضِ

نشر في: 14 مايو, 2022: 11:59 م

 لطفية الدليمي

كثرةٌ من المجلات العربية في عقود السنينات والسبعينات من القرن الماضي كانت تفرِدُ صفحات لترفيه القارئ وتحفيز الضحكة البريئة لديه عبر سلسلة مزحات أو (قفشات) طريفة. حتى بعضُ مجلاتنا العراقية (مثل الفكاهة والمتفرّج) كانت تعتمدُ هذه الصفحات الفكاهية للتسرية عن القارئ وبث أجواء المرح في روحه.

كانت معظم تلك الصفحات الفكاهية تتصدرها عبارة (إضحك تضحك لك الدنيا، إبكِ تبكِ وحدك !). قد يشعرُ القارئ بشيء من عدم الراحة إزاء هذه العبارة بسبب شيوعها، وكلّ مُشاعٍ قد ينتهي إلى الابتذال بسبب كثرة الاستهلاك؛ لكنّ العبارة تبقى في مدلولها النفسي والعملي صحيحة مُجرّبة.

ليس البكاء والنواح وحدهما مايجب أن نجعل مفاعيلهما تدور في مدار ذاتي منغلق لاأحد سوانا يعرف حيثياته المعقّدة. لاأحد في الكون – ربما باستثناء الوالديْن – سيقتطعُ جزءً من وقته ليشاطرك بكاءك أو نواحك. وكذلك هو فعلُ التشكّي: قد تتشكّى من أحوالك المالية أو تكوينك الوراثي أو قدراتك البدنية أو مركزك الوظيفي..الخ ؛ لكن يجبُ أن تضع أمامك حقيقتين اثنتين: الأولى أنّ التشكّي مفيدٌ عندما يكون نقطة شروع لتجاوز واقع الحال السيئ، والثانية أنّ الإدمان على التشكّي فعلٌ غير منتج إذا مااستمرّ طويلاً، وقد ينتهي نمطاً من الآلية الدفاعية النفسية المعيقة التي تسوّغ لك نكوصك وتخاذلك عن الفعل المنضبط المنتج- ذلك الفعل الذي لابدّ أن ينتهي – بفعل تراكمي وعلى مدى زمني ليس بالقليل – إلى نتائج مبهرة.

سأوجزُ هنا، ولطول علاقتي مع عالم الكتابة، توصيف نمط شائع من المتشكّي المزمن في عالم الأدب. الروائي المتشكّي الذي طال عهده بالتشكّي حتى صار سمة نفسية وذهنية له. يتخذ هذا التشكّي غالبا الصيغة التالية: كتب صاحبنا المتشكّي رواية أو إثنتين أو حتى خمساً أو عشراً، ثم راح بعدها يصبُّ جامات الغضب صباً على النقّاد والصحف ورؤساء وأعضاء لجان الجوائز الروائية لأنهم أغفلوه في كتاباتهم وحرموه من جوائزهم.لايكاد يظهر منشور له إلا وتسوده نبرة التشكّي، ثمّ يعلن بطريقة حاسمة أنه ماعاد يثق بهؤلاء النقّاد الخونة والوسط الثقافي الذي يتآمر عليه. لم يَعُد يرى في الوسط الثقافي سوى جمهرةٍ من خونة ومتآمرين !!

أسوقُ لمثل هذا الروائي المتشكّي – لتعزيته وطمأنة قلبه الموجوع – المثال التالي: أنت كروائي أمام إحتمالين متطرّفين: قد تكون روائياً عبقرياً، وقد لاتكون. لو كنتَ عبقرياً لن يستقيم فعلُ التشكّي مع عبقريتك حتى لو لم تنل أية علامة اعتراف بها. العباقرة أناسٌ شديدو الاحترام لذواتهم، منضبطون وذوو حساسية فائقة فيما يخصُّ طرائق عملهم، وهُمْ في الغالب ينظرون إلى أعماقهم (بل وحتى يحدّثون أنفسهم) بأكثر ممّا يفعلون مع البشر والعالم. هل سمعت يوماً أن نجيب محفوظ كان يتشكّى وعلامات الخسران بادية على وجهه؟ هل لمحتَ في صورة منشورة لكازانتزاكي علامات الانسحاق والتذلل إزاء مغانم هذا العالم وجوائزه؟ العبقرية في بعض توصيفاتها هي القدرة على العمل المنظّم والخلاق تطلعاً لغاية سامية خارج نطاق هذا العالم لايدركها الآخرون؛ فكيف يتشكّى العبقري من عدم نيله بعض امتيازات هذا العالم وهو يسعى لغاية تتجاوز نطاقات هذا العالم؟ هذه متناقضة حقيقية. أما إذا لم تكن عبقريا فعلام التشكّي ياصديقي؟وبين العبقرية وغيابها يقعُ الطيف الإبداعي الذي ينتمي له المتشكّي، وكيفما كانت الأحوال فليس من مسوّغ منطقي أو عقلاني للتشكّي. التشكّي مَضْيَعَةُ وقت وجهد، ومقتلة للضمير، وافتئات على الآخرين.

أصدقائي الروائيون المتشكون: لاتضيعوا وقتكم الثمين فيما لانفع فيه. لاأحد سيصغي إليكم. لاتكثروا الملامة وتعتبوا على حال الدنيا التي صارت ملعبة علاقات عامة. ماذا تظنون؟ هل هذا فتحٌ فكري لا يعرفه الآخرون؟ هل كانت الدنيا غير ذلك فيما مضى؟ قد تتغير الأحوال والأنفس مع السنوات بحسب التحولات الثقافية و الثورات التقنية المستجدّة؛ وعليكم إزاء ذلك أن تغيروا نظرتكم للعالم ولأنفسكم، وتستنبطوا الوسائل التي تكفلُ تطوير أدوات التعبير المتنوعة لديكم إلى جانب الرواية (كتابة الدراسات والمقالات والموضوعات الموسعة والترجمة لمن يملك لغة ثانية مثلاً).

لاأحد يتآمرُ عليك أيتها المتشكي. أقدِمْ على الحياة بقوة وجرأة ونزاهة وشغف، وكرّس نفسك لإبداعك وحده، ودع عنك نزعة التشكّي التي تستمرئ معها التكاسل وإلقاء التهم جزافا على سواك، وهي في حقيقتها ليست سوى بِرْكةٍ طينية تحرمك من الهواء النظيف، وتزيد مناسيب الخذلان في روحك. أكتبْ كلمتك العذبة وقصتك الجميلة وروايتك وتمتع بما تنجز وامضِ قدما. لاتكترث لأي شيء ودع عنك التظلم. هذا أفضلُ ماتفعله.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram