ستار كاووش
كنتُ أقف في محطة هوخفين، مترقباً القطار الذي سيأتي من مدينة خروننغن، أقصى شمال هولندا، بإنتظار وصول صديقي الشاعر موفق السواد في ذات القطار الذي سنكمل فيه الطريق سوية نحو أمستردام،
لحضور بعض الفعاليات الثقافية ولقاء مجموعة من الأصدقاء، وهي فرصة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في أجواء لا تتكرر كل يوم. وفجأة إتصل موفق تلفونياً معتذراً لأنه سيتأخر قرابة ساعتين بسبب ظرف طاريء، مقترحاً عليَّ الذهاب وحدي في القطار الذي كان على وشك الوصول، وسيلحقني في نهاية النهار في قطار آخر. تفهمتُ الوضع وودعته على أمل اللقاء مساءً، قائلاً له -وسط ضحكاتنا العالية- بأني سأفترضه جالساً قربي في الرحلة. توقفَ القطار بمحاذاتي، فأخترتُ مكاناً قرب النافذة، على يسار العربة التي كانت خالية من الركاب، بإستثناء رجل هولندي ستيني وضعَ حقيبته الصغيرة بجانبه وجلسَ قرب النافذة، الى اليمين، في الجهة الموازية لي تماماً. تحركَ القطار سريعاً، وصارت الأشجار الملونة التي على جانبي الطريق، تمضي بعيداً الى الخلف، وكلما إزدادت سرعة القطار كلما تخاطفت الأشجار أكثر وتداخلت ألوانها وتفاصيلها وهي تختفي بسرعة البرق ورائنا. في الداخل كان الهدوء هو سيد المكان، ولم يقطع هذه السكينة سوى صاحب الحقيبة الذي أخرج صحيفة وبدأ يقلب صفحاتها، حتى بدا بقبعته وطريقة إنسجامه مع القراءة، كإنه قد خرجَ تواً من واحدة من لوحات الرسام إدوارد هوبر. حاولتُ أن أكسر هذا الهدوء بشيء ما، لكن موظف القطار الذي مرَّ بيننا، قد تكفل بالموضوع، فقد سمعنا وقع خطواته الخفيفة وهو يَمُرُّ بيننا قائلاً بصوت تصحبه إبتسامة (نهاركما طيب أيها السيدان) ومضى في طريقه نحو العربة الأخرى بعد أن رددتُ عليه التحية، فيما إكتفى صاحب القبعة بحركة صغيرة من رأسه.
مرَّت لحظات إستعدتُ فيها صديقي موفق وأنا أنظر الى المقعد الفارغ الذي بجابني، لتنبثق أمامي مفاجئة لم تخطر على بالي أبداً. فقد تسمرتُ في مكاني وأنا أنظر الى الرجل الآخر، والذي بان طرف قبعته فقط خلف الجريدة، فيما توسطَ الصفحة التي بمواجهتي، بورتريت بحجم كبير لصديقي موفق السواد، تبينته جيداً، فإذا به البورتريت الذي رسمته له في الفترة الماضية، تَلَفَّتُ في كل الجهات لأتبين حقيقة ما يحصل، ثم عدتُ أنظر الى جريدة الرجل، فإذا بالبورتريت يداهمني من جديد، فرددتُ مع نفسي: لا يوجد معي سوى هذا الرجل في القطار، ولديه جريدة هولندية، وفيها بورتريت موفق الذي رسمته له، موفق الذي تأخر بالمجيء بذات القطار!! ولو كان هذا الرجل قد إختار مكاناً آخراً للجلوس، لما تسنى لي رؤية الجريدة! للمصادفة التي جعلت صديقي موفق السواد يصعد القطار معي حقاً، ويتحقق ما مازحته به.
وصل القطار الى محطة زفولا، فإستعد الرجل للنزول وأمسكَ الجريدة وطواها لأجل وضعها في الحقيبة، لكنه تردد لحظات، ثم تركها على المقعد الذي بجانبه، تاركاً إياها لراكب آخر، كما يفعل الهولنديون عادة. هو في الحقيقة تركها لي، أنا الذي أجلسُ قريباً منه وسأمضي وحيداً في القطار. نهض الرجل من مكانه وحيّاني برأسه مبتسماً وغادر.
لحظات وكانت الجريدة في يدي، فنظرت الى البورتريت مرة أخرى فرأيته مصاحباً لحوارٍ أجرته الجريدة الهولندية (دي ستَنتور) مع موفق السواد، وكتبَتْ تحت البورتريت، الشاعر والكاتب العراقي موفق السواد بريشة مواطنه كاووش.
وصل القطار الى أمستردام، فتجولتُ قليلاً لتبديد بعض الوقت حتى مجيء صديقي موفق، فتوجهتُ الى متحف فان خوخ لرؤية لوحات (صديقي) الآخر فنسنت، وبعدها سرتُ نحو الموعد المحدد. أمضيتُ بعض الوقت مع الأصدقاء حتى وصل موفق مبتسماً كالعادة وهو يحدثني عن العارض الذي أرغمه على التأخر بالمجيء، وكيف كان يتمنى أن نكونَ سوية في القطار القادم الى مدينة البهجة والفن والصداقات الجميلة. فقلت له (لا تقلق، فقد كنت حرفياً معي في القطار) فأجابني (ماذا تقصد بالضبط؟) وهنا أخرجتُ الجريدة من حقيبتي وحكيتُ له عن الرجل الهولندي الجميل الذي تركها لي على مقعد القطار قبل نزوله في محطة زفولا. ليغرق جميع الموجودين بالضحك من طرافة الموقف وغرابة المفاجئة.