TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > أيام في حياتي.. الطاهر وطار

أيام في حياتي.. الطاهر وطار

نشر في: 2 يوليو, 2010: 04:20 م

أنا ابن بادية من قبيلة بربرية، أي أنني ورثت تشكيلة لغوية غير العربية في صباي، ولدت في مرتفعات جبلية عالية محاطة بالأشجار، فعايشت حكايات الجدات والأمهات وسط عواء الذئاب، عملت راعيا أو بالأصح كنت أعوض غياب الراعي أحيانا، ولأنني ضعيف البنية عليل الصحة فقد عشت عدم الانسجام مع أترابي، فلا ألعب أو أمرح معهم بل أعهد دائما للتأمل.
كان يمتلكني هاجس يدفعني للتعبير عن شيء ما في داخلي فحاولت أن أغني وأستمع إلى صوتي ثم اكتشفت وأنا طالب في قسطنطينية حكايات ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة، جبران خليل جبران والأدب العربي الحديث. لكني كنت قد انهمكت أثناءها في الموسيقى ثم حاولت أن أقول شعرا فلم أفلح في هذا أو ذاك.وأنا أعود إلى قريتنا كنت أصوغ كل ما قرأته من حكايات باللهجة المحلية أو بالدارجة فيجلس إلي أخواتي والجيران والأصدقاء يستمعون إليها، وكنت أضيف إليها أشياء من تأليفي وأصارحهم بذلك أحيانا. عندما ذهبت إلى تونس قرأت مجلة القصة التي تصدر في مصر وهي سلسلة تترجم أكثر مما تنشر، وبمجرد أن قرأت العدد الأول منها كتبت قصة وأرسلتها إلى جريدة الصباح فنشرتها، فوجئت بذلك ومن يومها قررت أن أصبح قاصا.أنا مسكون بالشعب الجزائري بتعدديته وعظمته وجنونه، وأنا أحفظ عدة آلاف من أمثاله وأغانيه الشعبية والفلكلورية.. أجلس معه في المقاهي ولي أصدقاء حدادون، نجارون، تجار، ومثقفون ومن مختلف المهن، وكل هذا معكوس في كتاباتي، وأنا أحمل في روحي تمرد الجزائري على كل ما هو نظام فأنا لا أعرف التوقف عن التفاعل مع الزمن، يأكلني فآكله. لا أعرف الجلوس في المقاهي، وإذا جلستُ في انتظار أحدهم، أو تلبية لدعوة داع، فسأظل أسائل ساعتي، حتى أنصرف آمنا سالما. لا أعرف أن أبقى فارغ اليد من أي شغل، أو فارغ الذهن من أي انشغال. منهكا، منهكا الى حد الانهيار، أعود إلى منزلي في حدود الرابعة مساء، أغلب الأحيان، أتمدد على سرير فردي، في قاعة الجلوس، وأنتظر فيلمي العزيز. إما الأخوات الساحرات الثلاث، وإما مونك. الفيلم الأول وهو حلقات أحيانا مترابطة، وأحيانا مستقلة، خلاصته صراع الإنسان مع قدره، ومع المجهول المعلوم. شاهدته أكثر من مرة، وفي كل مرة، أصل إلى استنتاجات جديدة. الفيلم الثاني، وهو أيضا حلقات، فيه شيء من كل واحد منا، بهذا القدر أو ذاك، وهو الفضول، وعشق السيميترية. فالسيد مونك أدريان، مهووس بالخوف من الجراثيم، وبرؤية الأشياء والأمور مرتبةً ترتيبا سيميتريا لا اعوجاج فيه. وبقدر ما يقوم بأعمال الكبار، وهو يحقق في الجرائم المقترفة، يعيش حياة البراءة الولدانية. ماتت زوجته اغتيالاً، منذ خمسة وعشرين عاماً، لكن مكتبها لا يزال مغلقا، وهو يدفع ثمن كرائه كل شهر، مع أنه يعاني العوز والحاجة، إلى درجة يعجز فيها عن دفع أجرة مساعدته. السابعة والنصف، وأكون قد تعشيت، وهضمت قليلا، أدخل الفراش، على أمل أن أشاهد نشرة الثامنة، لكن عادة ما لا أستطيع فعل ذلك. تتسلل زوجتي. تضع إبريق الماء، ولربما فاكهة أو حلوى أو قطعة خبز، فكثيرا ما أستيقظ جائعا. أستيقظ في حدود الثانية عشرة في أحسن الحالات، وأحيانا كثيرة قبل ذلك بنصف ساعة. مهووسا بقضية عربية ما، وما أكثر القضايا العربية، التي تحيلنا على الجنون، على مدى الزمن. مهووسا أبادر بفتح إحدى الفضائيات العربية أو الفرنسية. أكون في الصورة، عن المستجدات العربية والدولية، والحق أقول، إن الحلقة التي ترتبط بها كل المستجدات في العالم، هي إما الكوارث الطبيعية، وإما العالم العربي. أطفئ كل ما يشعّ وأراود النوم. وعادة ما أفعل ذلك بإحدى الوسيلتين، إما بإسقاط النظم العربية، وإما بفتح المذياع، المثبت باستمرار على المحطة الليبية. على طريقة الأخوات الساحرات الثلاث، أجد وسيلة ما لإسقاط هذا النظام أو ذاك. لكن الحيرة تبعد النوم عني، إذا حاولت إقامة نظام بديل... ذلك أني مقتنع ومنذ مدة طويلة، بأننا نحيا باطمئنان وسكينة، القرن السادس عشر الميلادي، وينتظر بعضنا بروز محمد بن عبد الوهاب، في هذه العنيزة أو تلك. أخرج بشبه خلاصة، أن السنّة لا يستطيعون العيش إلا في نظام ملكي. وأن الشيعة لا يليق بهم إلا النظام الشيوعي الستاليني. وأن المسيحيين العرب في حاجة إلى نظام الإمامة... وأن الأكراد ليسوا عربا والسلام. يهيأ لي، والله أعلم، أن أفضل أسلوب لتوحيد العرب، هو ما يحدث في الإمارات: مجموعة من الشيوخ، بعضهم كبير، بعضهم متوسط، بعضهم صغير، تفاديا للمشاكل وابتعادا عن القفز على المراحل، يتشايخون... وشيئا فشيئا يتقاربون، ولكن في الأثناء يتبارون بالإنجازات المادية وغير المادية... نلعنهم صباحا ومساء وننعتهم بمجتمعات البترودولار، حتى أصبح العالم العربي كله مجتمع بترودولار، في انتظار أن تلحق بنا موريتانيا وأريتريا. والله أعلم بما تخبئه أجواف الأرض وبواطنها. قد أغفو، لكن سرعان ما أستيقظ، أقفز إلى الكومبيوتر الذي يكاد يكون معي، هو وطاولته، في السرير. أقرأ بريدي، أقرأ بريد الجمعية، أرد على التساؤلات والاستفسارات والتحيات، أفتح ما يفتح من الجرائد والمجلات الوطنية والقومية، أجدها كلها أشبه ما تكون بقناني اللبن، شكلا واحدا، محتوى واحدا، سرعان ما يروب. لا يسمح لي ليلا بتلقيم موقعي وموقع الجاحظية، فأعود إلى السرير، مصمما على النوم، باس

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram