من البصرة يجيئُنا هذه المرة خبرٌ منعش يعزز الأمل بأن خراب أم المدن والعراق بأكمله لم يبلغ بعد درجة التمام والكمال، وان ثمة ضوءاً في نهاية النفق الذي حشرنا فيه حكامنا وجعلونا مثل كرة قدم تتقاذفها الأقدام نحو كل الاتجاهات المؤدية إلى مصالحهم الأنانية، الشخصية والحزبية والطائفية.
على الدوام كانت البصرة، كما أهلها، كريمة، وها هي اليوم تفيض علينا بكرمها المعهود في ساعة عوز وحاجة وشدة. فحكومتنا التي انتخبها الشعب لكي تنقله من ظلمات الدكتاتورية واستبدادها في عهد النظام السابق إلى فضاء الديمقراطية المفتوح على الحرية، تقاتل بالأظافر والأنياب للعودة بنا إلى عهد الاستبداد والاستعباد والجور .. عهد الفرد الطاغية المؤلّه المتجبر المتكبر.. عهد الشعب الخانع الذليل المصادرة حقوقه وحرياته باسم العروبة مرة وباسم الإسلام مرة أخرى ... وباسم الطائفة والمذهب هذه المرة.
البصرة الكريمة تردّ على السعي المحموم لحكومتنا بالتضييق على الحريات التي كفلها الدستور، تارة بإصدار قانون يُطيح حق الصحفي في الوصول الحر إلى المعلومات والبث الحر لهذه المعلومات، وحق الناس في التلقي الحر لهذه المعلومات، وتارة أخرى بالإلحاح والضغط لتشريع قانون لا يبيح للناس الخروج إلى الشارع في تظاهرات إلا برضا الحكومة وقبولها، وقانون آخر يُلغي عملياً حرية الاتصال وتبادل المعلومات عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة تحت طائلة السجن المؤبد!
تواجه البصرة الاتجاهات المتوحشة لحكومتنا – ولن أعفي البرلمان من المسؤولية عن هذه الوحشية - بخطوة حضارية لا مثيل لها في منطقتنا، لكنها قائمة في أعرق ديمقراطية في العالم. ففي البصرة سيكون لدينا ركن للخطباء في أحد شوارع المدينة العريقة شبيه بـ"سبيكرز كورنر" (زاوية الخطباء) في حديقة "هايد بارك" اللندنية العريقة هي الأخرى.
حكومة البصرة المحلية أعلنت أمس الأول عن تخصيص أحد الشوارع الرئيسة وجوانبه مكاناً عاماً للتعبير عن الرأي بلا رقابة حكومية خلال أوقات محددة ووفق ضوابط معينة، وقد اختارت للمكان اسماً معبراً هو "ساحة الرأي" وموقعاً مناسباً تماماً بمحاذاة نهر البصرة العظيم، شط العرب.
وبحسب مدير قسم شؤون المواطنين في ديوان محافظة البصرة السيد عباس الناهي فإن "المكان سيكون متاحاً للمواطنين الراغبين بالتعبير عن وجهات نظرهم بلا رقابة حكومية، وخلال كل يوم جمعة اعتباراً من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الساعة العاشرة مساء".
بل ان البصرة سعت لأن تكون أكثر كرماً من هذا بالدعوة التي وجهها مدير قسم العلاقات والإعلام صالح البجاري الى الرسامين والشعراء والموسيقيين لارتياد الساحة "لانتقاد قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية من خلال عرض أعمال فنية أو إلقاء قصائد".
هذه المبادرة البصرية الرائعة ينبغي أن تثير في منظماتنا الثقافية – هل أحتاج لأن أسميها؟ - الشعور بالعيب والخذلان إذ تتغافل عن التجاوزات الحكومية السافرة على الحريات العامة، خوفاً من ضياع الألف دولار أو المليون دينار في السنة... وليس في الشهر!!