علاء المفرجي
حمل كاميرته خرج ليتأمل من زاويته الخاصة المدينة، يسقّط الصورة البغدادية او صورة بغداد او الزقاق، فالخزين البصري الذي أملكه عن المدينة اصبح هو الشيء الأساس خاصة بعد الحرب الاخيرة، هذه الحرب التي كانت كتاريخ هي نهاية حروب الوطن، لكنها بداية مأساته، التي يبدو أنها لا تنتهي.
تقول سوزان سونتاج: «النظرة الى الواقع كغنيمة غريبة، يجب أن تطارد وتُمسك من قبل صياد مجتهد ذي كاميرا.» وهنا لنا ان نحكم على تجربة تركي أنها تجربة صياد مجتهد، وهو ما يتأكد من مقولة أن التصوير الفوتوغرافي باعتباره توثيقا اجتماعيا، كان أداة لتلك الذهنية النموذجية للطبقة الوسطى، التي كانت تُدعي بالأنسانية، ذهنية في نفس الوقت متعصبة ومتسامحة قليلاً، فضولية ولا مبالية، وجدت في أحياء الفقراء الديكور الأكثر فتنة.
في (الهجرة نحو الخراب) المشروع الوحيد فوتوغرافياً لزياد تركي، نحن أمام تجربة صعبة، إن على واقعيتها، أم على العين التي رصدت خلف الكاميرا.. الكاميرا هنا ليست في راس شاعر كما يقول (أورسن ويلز)، بل في راس من يشعر بأنه مشارك بسكوته على الأقل في هذه الفضيحة، وأعني بها فضيحة الهجرة والتشرد أثنار الحرب. كانت صور (الهجرة نحو الخراب) ليست سوى وثيقة، ووثيقة مرة، وهل إحدى مهمات التصوير الفوتوغرافي سوى إنتاج وثيقة.
لا أدري إن كان زياد تركي وهو ينصرف وبإبداع وذكاء، لتصوير النزوح، أو اللجوء من اثر الموت، أو الهجرة - وهي هنا ليست بطراً - الصعبة، أو أي مسمى آخر، يعلم ان هذه الهجرة نحو الخراب مازالت مستمرة؟ ولم تتوقف حتى اللحظة؟ أم أنه مارسها كونها ابنة اللحظة الخاطفة، ولكني على يقين ان أدرك اخيرا أنها ليست سوى لحظة مستمرة، باستمرار الألم والمعاناة، والمأساة التي زادتها الحرب وتداعياتها مأساة أخرى..
لم يكن تركي بحاجة الى أن يكون له موقف موثق، عقلاني تجاه نمطية بعض الموضوعات، موقف افتتان ورع والذي قد يكون مطلوبا في موضوعات أخرى.
- لم يكن له مشروع للتوثيق، لكنه كان يسعى لتسجيل لحظة من ذلك الزمن، وهو يوثق فكرة النزوح، والتي ربما كانت تلك اللحظة هي بداية لمواسم قادمة من الخراب.. الصور في مشروعه كانت تتنبأ بمواسم عذاب أخرى يعيشها هؤلاء.. فسكان العشوائيات، هم جزء من الحالة، الاطفال والنساء والشيوخ الذين سكنوا مضطرين في معسكرات الجيش، او قرب مقالع النفايات، او في المؤسسات الحكومية التي تعرضت للخراب.. والى الان هناك الكثير من المهجرين، والكثير من (المحتلين) الذي يرفضوا ان يرخوا قبضتهم على الارض التي هجر منها هؤلاء. تسعة عشر عاما منذ فكر زياد تركي في مشروعه هذا وحتى اللحظة الراهنة نعيش هجرات متكررة، بل اتخذت لها ألونا مختلفة باختلاف صانعيها، فتارة بلون طائفي، وأخرى بلون عسكري، وأخرى تنتظر وعود من نصْب نفسه متحدثا بأسمائهم، وهذه الهجرات تلد مأساة ومعاناة اخرى، تحتاج اكثر من صورة لها قصد التوثيق، أو قصد السياحة!.
.... فليس هناك هدف توثيقي لدى زياد تركي هو فقط كان مهتماً بمضمون الصور في اللحظة التي جرت والتي كانت ملفتة للنظر..
ومثلما قال في بداية مشروعه، من أن داخل المخلفات التي كانت يوما ما بنايات (محترمة)، تثير فينا الرعب، والحذر، والتقزز أحيان أخرى، كانت هناك سجون وغرف تحقيق وغرف اجتماعات واخرى للنكات، ولم تكن هذه الغرف تخلو من صور (الاوحد)، الفريد، العنيد، الجبار. صار الاختلاف شيئا بسيطاً، الصور لم تعد موجودة أو معلقة، ولم يعد لها أسم مثلما كان، في جوف البنايات، فأفترش من وجد الصور والأضابير للمنام، فكان أن اقام مطبخه في تلك الزنزانة المنفردة، أو شارك زوجته غرفة (رئيس التحرير)، أو ملعبا للطفال في الغرفة الحزبية، حيث تكتظ بالتقارير التي سبب بعضها الموت لمن حملت اسمه..
فلسنا هنا بحاجة الى تأويل هذه الصور أو قراءة مختلفة لها، أو حتى بوصفها جمالا مخلد، بل لنكشف ما هو بحاجة الى أن يجابه، وما هو مدعاة للرثاء، الصور هنا تضمن تلخيصا أكثر، واتصالاً أقل ثباتاً مع التاريخ، وعلاقة مع الواقع الجغرافي الاجتماعي.
الانسان كان هو موضوع (هجرة نحو الخراب) مقهـورا، ومحطمـا، وحائـرا، امام ابـــواب الحياة الموصدة دونـه فـكـــان قد عبر عنها في العتمة الثقيلة أو الضوء الخافت، ولو بضياء اقل هو بمثابة فسحة أمل، وإن طالت عشرين عاما، هو ابرز لحظات التفكير والتامل لهذه الوجوه التي أتعبها الزمن.. الانسان هنا إذن موضوعا للخراب لكنه ايضا موضوعا للحياة.
ولعل هذه الصور كانت هي المصدر الاساسي، اعني الخزين البصري والذي يملكه عن تحولات المدينة، بل وهمومها اصبح هو الشيء الأساس خاصة ما وثق للحرب وتداعياتها. وأصبح سجلا حاضرا في وعيه السينمائي.