TOP

جريدة المدى > عام > فوضى البدايات.. كارلو روفيللي يستذكر صفحاتٍ من شبابه

فوضى البدايات.. كارلو روفيللي يستذكر صفحاتٍ من شبابه

نشر في: 17 مايو, 2022: 11:09 م

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

كارلو روفيللي Carlo Rovelli، بروفسور الفيزياء النظرية وأحد المساهمين في تطوير نظرية الجاذبية الكمية الحلقية، هو أحد العلماء الطليعيين (الشعبيين) في عالمنا.

يُعرَفُ عن روفيللي أنه مؤلف عدد من الكتب التي لاقت شعبية كبيرة ومقروئية عالمية جعلتها تتصدّرُ قوائم الكتب الاكثر مبيعاً على مستوى العالم، كما تُرجِمت لمختلف لغات العالم (العربية واحدة منها). يحاضرُ روفيللي أستاذاً في الجامعة، ويكتب في فلسفة العلم وتأريخه، ويحضرُ المؤتمرات في شتى مناطق كوكبنا، ويكتبُ مقالات في صحف رئيسية في العالم. الغريب أنّ تأريخ روفيللي الشخصي عندما كان شاباً لايوحي بأنه سيكون بعد بضعة عقود ذلك الاستاذ المميز في الفيزياء النظرية ؛ فقد كان في مطلع شبابه من مشعلي الثورات الشبابية التي قادها الهيبيون في أوروبا وأميركا في أواخر ستينيات القرن الماضي، ثمّ حصلت له تجربة (أقرب للتجربة الفكرية العميقة) إلتقى فيها بالفيزياء أثناء دراسته الجامعية ووقع في عشقها الطاغي، ومنذ ذلك الحين اعتزم أن يجعلها شغله الشاغل طيلة حياته، وقد أفاض في بعض كتبه ومقالاته المنشورة في الحديث عن هذه التجربة المثيرة.

روفيللي ليس بالاسم الغريب في أوساطنا الثقافية والعلمية العربية ؛ فقد تُرجِم عدد من كتبه المنشورة إلى العربية بدءاً من كتابه الأول (سبعة دروس موجزة في الفيزياء Seven Brief Lessons in Physics)، ثم تتالت الترجمات اللاحقة إلى العربية:

- نظام الزمن The Order of Time

- الواقع ليس كما يبدو: رحلة إلى الجاذبية الكمية Reality is Not as it seems: A Journey to Quantum Gravity وهو كاتب مقروء لأسباب عدّة منها: لغته الشاعرية الجميلة المنسابة بتناغم ورقّة، وتمرّسه الفلسفي، ومقدرته الواضحة في تقديم سياق مفاهيمي لأعقد الأفكار الفيزيائية، وهذه كلها عناصر جعلت من قراءة كتبه نزهة مثيرة في غابة العلم (والفيزياء بخاصة).

أما روفيللي الفيلسوف فيكفي أن أذكر أنه كتب في مداخلة قصيرة حول كيفية انتقالته المثيرة من ثورية السياسة إلى ثورية الأفكار في كتابه (ماهو الزمان؟ ماهو المكان)(1)، فذكر أنه كان ينوي دراسة الفلسفة في الجامعة ؛ لكنه تقصّد (وهو الشاب الثوري الذي يريد تغيير العالم) العزوف عن قسم أكاديمي تشيع فيه الشخوص الأكاديمية الراكدة (هكذا رآها هو) ؛ إذ حسب أنّ معظم الفلاسفة الأكاديميين حينذاك (نهاية الستينات) كانوا متعاطفين روحياً وعقلياً مع مواريث الفاشية، وهكذا كان خياره في دراسة الفيزياء حلاً وسطياً مكّنه من ممازجة الروح الثورية المتطلعة بالشغف العلمي، ونقل عوامل الثورة من عالم الآيديولوجيا إلى عالم الأفكار. ربما من المفيد هنا أشير إلى المدى اللامحدود من الشغف الفلسفي الذي يشعُّ من كتابات روفيللي ؛ بل أنّه إختصّ أحد كتبه كاملاً للفيلسوف الاغريقي (أناكزيماندر (وميراثه الفلسفي(2) .

إنّ من بواعث متعتي الفكرية العميقة أن أقدّم ترجمة للمقدّمة التي كتبها روفيللي لكتابه المذكور أعلاه (ماهو الزمان؟ ماهو المكان؟) المنشور بالايطالية عام 2004 والمترجم إلى الانكليزية عام 2017، ولم يترجم إلى العربية حتى اليوم. ستزودنا هذه المقدمة بتفاصيل مثيرة عن حياة روفيللي وآرائه قبل دخول الجامعة وبعدها، وسنرى فيها قراءة سايكولوجية لديناميات الرغبة في تغيير العالم والتي يتأجج أوارها في أرواح الشباب ؛ لكن يحصل في معظم الأحيان أن تخالط تلك الرغبة التغييرية نزعاتٌ مؤذية وغير منتجة للفرد ومجتمعه.

إنّ قراءة أطروحة روفيللي يمكن أن تكون خريطة فكرية تعين الشباب – كما واضعي السياسات – على التعامل الخلاق والمعقلن مع نزعات التغيير والتمرّد الراديكالي في الأرواح الشابة، كما ستجعلنا ندركُ المدى الشاسع لأهمية العلم التي ترقى لأن تكون ترياقاً ناجعاً للنفوس المعطوبة التي دخلت في عتمة متاهة يبدو أن لامخرج منها بالوسائل الاعتيادية.

العلم له هذان الوجهان: هو أداةٌ لعلاج الأرواح – الشابة بخاصة – من الارهاق الفكري وضياع بوصلة الأهداف المستقبلية التي تستحق الكفاح من أجلها، مثلما هو - وتطبيقاته التقنية - وسيلتنا المعاصرة في تعظيم الثروة والارتقاء بمجتمعاتنا البشرية. هذا بعضُ مانتعلّمه من قراءة أطروحة روفيللي المثيرة.

المترجمة

كرّستُ شطراً كبيراً من حياتي للبحث العلمي ؛ لكنّ هذا التكريس ماكان سوى شغفٍ تملّكني في حقبة أعقبت السنوات اللاحقة لشبابي. عندما كنتُ لم أزل شاباً يافعاً كان العالَمُ بكليّته مصدر إثارة وتفكّر لي ؛ لكنْ ماكان العلم – على وجه التحديد - أحد مصادر تلك الإثارة.

وُلِدْتُ ونشأتُ في مدينة فيرونا الإيطالية وسط عائلة يكتنفها الهدوء وتعمّها السكينة. كان أبي، ذلك الرجل ذو الذكاء النادر، مهندساً يديرُ عملاً صغيراً تعتاشُ منه عائلتنا، وقد ورثتُ منه متعة الشغف بمحاولة فهم العالم بطريقة ذكية ؛ أما والدتي، تلك المرأة الايطالية الحقيقية الممتلئة حباً لاحدود لمدياته تجاه ولدها الوحيد، فقد كانت خير عونٍ لي في تنفيذ « مغامراتي الاستكشافية « الساعية لفهم العالم عندما كنتُ في المدرسة الابتدائية، ولطالما بعثَتْ في روحي حسّ الفضول والرغبة في الاستزادة من الاكتشاف والتعلّم.

واظبتُ خلال مرحلة الشباب اليافع على الدوام في مدرسة الليسيوم(3) Lyceum في فيرونا. كنّا ندرسُ مقرّرات في اللغتين اليونانية واللاتينية أكثر مماّ كنا ندرسُ من مقررات الرياضيات. وفّرت لنا مدرسة الليسيوم محفّزات ثقافية تتسمُ بالثراء والتنوّع ؛ لكنها كانت في مجملها ذات سقف عالٍ في الطموح والمبتغى، كما كانت تبدو مقتصرة على نمطٍ من السعي الحثيث للحفاظ على الميزات الحصرية والهوياتية للطبقة البرجوازية الصغيرة في فيرونا. العديدُ من معلّمينا في تلك المدرسة كانوا من الفاشيين الخُلّص قبل الحرب (العالمية الثانية، المترجمة)، وبعد الحرب ظلّوا على ولائهم للفاشية وإن كتموا هذا الولاء في أعماق قلوبهم. حصل هذا الأمر في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ؛ إذ كان هذان العقدان الستيني والسبعيني مَلْعَبَة صراع بين الأجيال عندما شهد العالم تغيّراً واضحاً لاتخفى معالمه، ولم يكن باستطاعة العديد من الشباب اليافعين القبولُ بتلك التغيرات العالمية من غير مشقات تثقلُ القلب والعقل ؛ الأمر الذي دفع الكثير منهم لإغراق نفسه في مواقف رخوة بقصد أن تكون آلية دفاعية يسعى من ورائها للإعلان الصارخ عن رفضه لما يحصلُ في العالم. من جانبي لم أكنُ أثقُ إلا قليلاً بعالم البالغين، وبأقلّ من ذلك بأيّ من معلّمي مدرستي الثانوية، ولطالما حصلت لي إحتكاكاتٌ خشنة مع أولئك المعلّمين، ومعهم كلّ الشخوص التي كانت تنطوي على رمزية سلطوية.

إستحالت مرحلة البلوغ لديّ حقبة من التمرّد والثورة دفعتني لنكران كلّ القيم التي مثلها العالمُ المحيطُ بي وجعلها محطّ تكريم وتبجيل، فضلاً عن أنّ تلك المرحلة شابها إرباكُ وتشويش فكري لم يكن معهما أي شيء يبدو موضع ثقة واطمئنان. الأمر الوحيد الذي بدا لي واضحاً بما يكفي للإطمئنان إليه تمثّل في شعوري بأنّ العالم الذي عايشته حينذاك هو أبعد مايكون عن العالم الذي يستحق أن يوصف بعالم عادل وملائم للعيش البشري. أردتُ في تلك الحقبة أن ألتحق بجمهرة المتشرّدين الملتحين لكي أبقى بعيداً عن العالم الذي لم أكن أطيقه ؛ لكنني في الوقت ذاته كنتُ قارئاً نهماً لايشبع من التهام كتب لطالما زوّدتني بقراءات مثيرة عن عوالم مختلفة عن عالمنا، وكذلك عن أفكار تخالف الأفكار السائدة. شعرتُ حينذاك أنّ كنوزاً عجيبة لم تزل مخبوءةً في كلّ كتاب لم أقرأه بعدُ.

حصل خلال دراستي الجامعية في بولونا Bologna أنْ تفاعل لأوّل مرّة مصدر حيرتي السيكولوجية وصراعي الفكري مع الخط العام لحراك الجيل الذي أنتمي إليه: كان أبناء جيلي من الشباب يرون في مضامير الدراسة الجامعية منطلقاً لتغيير العالم نحو عالمٍ آخر أكثر عدالة وأقلّ مناصرة لمظاهر اللامساواة. كانت ثمة رغبة ملحّة في أرواح هؤلاء الشباب لتجريب أشكال جديدة من العيش والحب ؛ لذا مضينا في إختبار أنماط غير مسبوقة من العيش المشترك. أردنا تجريب كلّ شيء: سافرنا لمسافات طويلة على الطرقات معتمدين على التوصيلات المجانية، ثم تنقلنا كثيراً داخل عقولنا وأطياف أحلامنا، وقضينا أوقاتاً لاتنتهي في حكايات حب عنيفة، وكنّا طيلة تلك الأوقات لانكفّ عن الكلام. كنّا آلاتٍ لاتتعب من الكلام. أردنا تعلّم رؤية الاشياء بعيون مختلفة. كانت نتائج تلك الاختبارات مختلفة هي الأخرى: أحياناً إنتهت إلى خيبة ثقيلة، وفي أحيان أخرى شعرنا أننا على أعتاب عالم جديد متخم بالاثارة.

اعتشنا على الأحلام. سافرنا كثيراً سعياً وراء أصدقاء جدُد وأفكار جديدة. اعتزمتُ وأنا في العشرين الانطلاق في رحلة طويلة للتجوال حول العالم بأكمله. قلتُ لنفسي حينذاك: أريد أن أجرّب عيش المغامرة والسعي وراء الحقيقة. أرى اليوم – وأنا أقتربُ من الخمسين – (وقت نشر الكتاب بالايطالية عام 2004، المترجمة)ِ أنّ رحلتي العالمية تلك كانت واحدة بين خياراتي الجيدة، ومن الواضح لديّ في يومي هذا أنني أبتسم ابتسامة رضى كلّما تذكرتُ براعتي في تلك الأوقات ؛ لكنني في الوقت ذاته أشعرُ أنني لم أزل منقاداً لحسّ المغامرة التي بدأت في تلك الأيام. لم يكن مساري دوماً سهلاً مُيسّراً ؛ لكنّ آمالي (المجنونة) وأحلامي ذوات السقوف العالية لم تخذلاني أو تخدعاني يوماً. كان يكفيني آنذاك إمتلاك مايكفي من الشجاعة للمضي في ملاحقة تلك الآمال والأحلام، ومن طيب حظي وحُسْن فِعالي أنني امتلكتُ هذا القدر من الشجاعة ولم أركن إلى الخذلان أو تفضيل السكينة على المغامرة.

 

هوامش المترجمة

1. عنوان الكتاب بالانكليزية هو:

What is Time ? What is Space ?

2. يمكن للقارئ الشغوف الذي يبتغي الاستزادة من المعرفة بفكر روفيللي وحياته وأعماله المنشورة الرجوعُ إلى مقالتين منشورتين لي:

الأولى: عنوانها (كارلو روفيللي: لغة الشاعر وعقل الفيزيائي وشغف الفيلسوف)، منشورة في صحيفة (المدى) العراقية بتاريخ 7 ديسمبر (كانون أوّل) 2021.

الثانية: عنوانها (هيلغولاند: نزهة مثيرة في غابة العلم)، منشورة في صحيفة الشرق الأوسط) بتاريخ 28 يونيو (حزيران) 2021.

3. نوعٌ من المدارس الثانوية التي شاعت في أوربا في عقود سابقة، يركز فيها التعليم على اللغة اللاتينية والكلاسيكيات الأدبية، وتتفاوت طبيعة التعليم فيها بين البلدان الأوربية. كانت هذه المدارس عرضة لانتقادات كبيرة من بينها أنها تغفل تعليم القدر الكافي من العلوم والرياضيات وبما يؤهل الطلبة لمستقبل محفوف بالتنافسية القائمة على اقتصاد يعمل على خلق الثروة، وتكون العلوم والتقنيات المقترنة بها دعائمه الرئيسية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram