حيدر المحسن
(1)
بعد القراءة الأولى للقصة، تقوم الذاكرة بتخزين جملة أو مشهد قصصيّ، وتؤدي الجملة والمشهد عمل مفتاح يفكّ شفرة النصّ إذا ما حاولنا النفاذ إليه ثانية. في “المئذنة”، القصة الأولى في المجموعة، يصف الكاتب غرفة المرأة في المبغى بأنها تشبه «باطن حبة عنب سوداء».
بالنّسبة إليّ، وبعد مرور أكثر من عقد على قراءتي الأولى، قام هذا الوصف بدور المفتاح عندما شرعت في دراسة «المئذنة» في الوقت الحاضر. ثم تبيّن لي أن جميع الاستعارات التي جاء بها المؤلف تنتمي إلى هذا النوع من الوصف، فالسرداب الذي تعيش فيه المرأة مع زوجها يشبه «قعر إبريق»، السرير منخفض ضيق “كعلبة ثقاب”، وعندما تمشي المرأة في زحام السوق فهي «إصبع بامياء محترق»، وإصبع ابنتها (حسنة) ذات السبع سنين “شوكة بريّة”، ورجلاها مصنوعتان من طين يابس، شعرها الذي يشبه أغصانا ميتة تعلق به فراشة من النايلون مثل “قملة خضراء ذات أرجل متوازية». إنها تشبيهات تبتعد كثيرا عن الاستعارات المنمّقة المزخرفة التي تخضع إلى قواعد البلاغة المعروفة، كما أنها ليست من كلام الشعر، فليس ثمة انزياح لغويّ، ولا عاطفة ظاهرة أو باطنة، ولم نعتد نحن معشر القرّاء هذا النوع من الوصف، سواء في القصص المكتوبة بالعربية أو المترجمة إلينا من لغات أخرى. استعارات محمد خضير في قصصه ليست نثرية ولا شعرية. فما هي إذن؟
يعمد الفنانون التّجريديّون إلى تحريف وتشويه الواقع من أجل الحصول على تراكيب غير طبيعيّة تبهر البصر أكثر منها حين تُرسم وفقا لأشكالها في الواقع. ويقوم الرسّام التّجريدي كذلك بالتعبير عن الأشياء بواسطة رموزها، إذ أن رمز الشّيء هو صورته داخل الذهن، وهو شكله معبّرا عنه بواسطة الفن، بطريقة أكثر حيوية. واستقى هذا الكشف أشهر الفنانين التّجريدين -بيكاسو- من دراسته لرسوم القبائل الأفريقية البدائيّة، حيث يبدو الحيوان والنّبات وغيرهما من المرئيات بهيئة خيالات منعكسة على جدران الكهوف، فالأسد يتحوّل إلى مجموعة من الخطوط والألوان لا علاقة لها بشكله في الطبيعة، وكذلك الغزال والسهم ووجه المرأة. الإنسان البدائي -أو الهمجي بتعبير عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس- كان يفكّر من خلال الرموز، وهي جذور ما سوف يتطوّر بعد زمن طويل ويصير حروفَ الكتابة، وكان مبتكر التشبيهات في «المملكة السوداء» يسير على خطى الاثنين، الإنسان البدائي والفنان التجريدي، وبلغ الحال به أنه لا يكتفي بجعل الشخصيات في القصة بدائية في كينونتها، بل أحاطها بأوصاف أخذت أشكال رموز همجية أو بدائية، من أجل أن تكون حقيقية أكثر. فهو يصف المرأة البغيّ، وهي راقدة في سريرها بأنها “ملقاة في برية تنتمي لعصر سحيق”، وجاءت نعوتها في القصة من ذهنٍ ينتمي في تفكيره إلى تلك العصور السحيقة. إن إمعان النظر في رسم المرأتين؛ البغي، والأم الكبيرة -صاحبة المبغى-، يعطينا فكرة كاملة عن الوصف التجريدي الذي يقوم على الرمز، والذي يُحسب إلى محمد خضير ابتكاره لأنه لم يسبقه فيه أحد.
تقول القصة عن المرأة بأنها تشبه “جذع شجرة مثمر بتفاحات ماسية كثيرة”، بينما تصف العجوز بأنها “سوداء داكنة كما لو صنعت من لحاء شجرة معمرة تتكدس بانفجار محموم”. التصوير هنا تجريديّ في جوهره. وللمرأة “عينان ماسيتان كبيضتي لقلق”، ويدعو الكاتب العجوز ب”كتلة اللحاء”، ويصف عينيها بأن لهما “لون الإسمنت”.
إن القصة الحديثة تتشكّل فنيا بواسطة الأوصاف المستعملة، ويمكننا عدّ هذه المقاربة أيسر طريقة لفحص أعمال القصّاصين، ويستطيع القارئ اختيار صفحة لا على التّعيين من أيّ كتاب سرديّ، وعن طريق فحص استعارات المؤلف، يمكننا إطلاق حكم نهائيّ على الجهد المبذول في تأليفه.
(يتبع...)