TOP

جريدة المدى > عام > مظفر النواب وبوشكينية القصيدة الشعبية

مظفر النواب وبوشكينية القصيدة الشعبية

نشر في: 21 مايو, 2022: 10:48 م

إن واحدة من موجهات تلقي الشعر العربي اليوم تقوم على نقطة مفصلية وتاريخية مفادها أن الشعر اقترب من النثر،

 وكلما تخلى الشاعر عن النظر إلى نفسه سيد التجربة، استطاع التخلص من عبوديته للقصيدة فلا يرضخ لها فتراه صغيرا، ولا يتركها تتعملق أمامه فتبدو كبيرة. أما اولئك المتمسكون بذائقة شائخة عفا عليها الزمن فما زالوا يظنون أن الشعر تراجع ومعه تراجعت الذائقة أمام مد السرد بأنواعه المختلفة، معتقدين أن الشعر في أزمة وأن ما يقدم منه اليوم هو تهريج، وما أشبه هؤلاء بأولئك المطبلين لمقولة إن الرواية في أزمة وأن مسمارا يدق الآن في نعشها.

إن تساؤلات مهمة ينبغي أن يوجهها هؤلاء المتمسكون بالذائقة المحافظة لأنفسهم من قبيل: لمن نكتب الشعر؟ أليس الشعر ذاك الذي سماه اوفيد هبة الآلهة ؟ وهل التوهم سبب من أسباب التأزم في التذوق ؟

مبدئيا يقود القول بوجود أزمة في التلقي الشعري إلى الاعتقاد بتحجر الشعر في قوالب قديمة، ولو كان التلقي يعني التحجر لما وجد ناقد مثل عبد الجبار عباس، أن( أهم ما حققه رواد الشعر الحر الاستجابة لحساسية العصر ولكن في نطاق التقاليد الموروثة)

وما نراه صحيا للشعر هو أنه كلما كان التلقي حرا؛ نفرت الذات من الراسخ واستجابت للمتغير، فتفاعلت الاذواق كما حصل مع سعدي يوسف ورؤياه وشعر أحمد مطر ولافتاته وتدويرات حسب الشيخ ونثريات فاضل العزاوي وسركون بولص وتنافذ اشكال كاظم الحجاج واسطوريات زاهر الجيزاني وهوس حسين مردان ويوميات كاظم نعمة التميمي وتعتيمات علي جعفر العلاق وبساطة حسين عبد اللطيف. ولقد رحب متلقو شعر مظفر النواب بابتداعاته، ولم ينتقدوه لان نبوءاته هي التي ارتقت بوعيهم إزاء سلسلة متغيرات المجتمع الواسعة التي فيها الإنسان هو الكيان الكلي، لا الكيان المتضعضع المصاب بالتفسخ والسبات والخنوع، بل نظروا الى شعره نظرة اعجاب وتمثل، والنواب نفسه تعامل مع الشعر كهواية تصويرية تصل بالاسلوب المحكي إلى لغة شعرية موحية، مؤكدا قول الناقد باوند :»(إن على الشعراء أن ينالوا نعم النثر).

إذن من ميزات التلقي الشعري أنه عفوي وطبيعي لا يعرف التطبع ولا التطبيع ومن ثم لا ينظر المتلقي بتعال وترفع إن هو وجد في القصيدة تحديثا غير مألوف كما لا فرق عنده بين الشعراء في أعمارهم وطبقاتهم ومواقعهم أن هم بلغوا النبوءة بنظرهم المتطلع إلى المستقبل.

ولقد تمثل مظفر النواب الفعل البوشكيني الذي نقل الشعر الغنائي إلى مستوى الرواية الشعرية، وصار النثر بناء طليقا من الناحية الايقاعية والصوتية بالنسبة للكلام الأدبي.

هكذا غدت القصيدة الشعبية التي يكتبها مظفر النواب ذات تذوق بصري اكثر استقرارا ورسوخا وأوثق استمكانا وثبوتًا من التذوق السماعي. والنتيجة أنّ التلقي السماعي وقتي غير متمهل، بينما الذائقة القرائية مداومة ومتئدة.

وليس ممكنا بالطبع تجاهل مساحة الشعر الشعبي بوصفه طرفا تابعا لا يفسد تذوق الشعر او يخربه ان هو قرئ قراءة او سماعا، وقد فطن مظفر النواب إلى هذا الامر في كتابة الشعر الشعبي فارتقى بالتلقي من مستواه الشفاهي المعتاد الى مستوى قرائي ، مقللا الفروق في التلقي بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح، سابقا بذلك التوجهات ما بعد الحداثية بوعيه الثقافي العالي وإحساسه الأصيل بأن الشعر لا طبقات فيه ولا محروميات. وأن جماله إنساني لا يخص جماعة هنا أو لغة هناك. ولهذا كانت نهضة الشعر على يديه كبيرة وأثرّت في الذائقة الشعرية العامة. ومن اشعاره التي كان فيها رائدا وهو ينشر شعره الشعبي في مجلات معنية اصلا بالشعر الفصيح قصيدة( فوك التبرزل) المنشورة في مجلة الاديب العراقي العدد الاول عام 1961 ومما قاله فيها:

وديت جفن الكحل ، مشحوف ناكل حسن،

ناكل حنين العشك، شهكات ليل وحزن،

لا وجه ليل بوصل، لا طيف، كلك دفن،

واميتك لذتي، وفوك التبرزل طعم،

اشهكك لون احضنت خصري بذبح منجلك

ويدور حز العشك داير مداري فلك

....

فوج بحنين الصدر، طوفان دك ورصع

ليش انه وانته بعطش؟ موش احنه نبعه ونبع

واميتك لذتي وفوك التبرزل طعم

لقد كان لتجربة مظفر النواب الشعرية أثرها المهم في تثوير التلقي الشعري للقصيدة المكتوبة بالعامية العراقية، وذوّب صلادة هذه اللهجة ولين خشونتها وحقنها بجمل شعرية جديدة، ركبها من مفردات مألوفة ليجعلها أكثر ألفة وهو الذي أدخل الرمزية إلى الشعر الشعبي مصعدا النسغ الدرامي في القصيدة الشعبية بعد أن كان مجرد التماعات لدى غيره( الحاج زاير مثلا).

فكيف بعد ذلك نلوم الشعبية أو نتعالى عليها أو نتجاهل فعل السياسة والاقتصاد أو نتمركز في إبراج عاجية ونرى الشعر وحده في الساحة يطور نفسه بنفسه متجردا من كل ما حوله ؟!.

وصحيح ان الحداثة الشعرية كانت على اوجها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته موجهة التلقي الشعري باتجاه حداثي ايضا لكن هذا التلقي في ثمانينيات القرن عاد ومركز الشعر الكلاسيكي، ليكون طوع الأغراض الإعلامية والتعبوية، حتى كاد أن يسدل الستار على شعر الرواد وما بعد الرواد فسادت مطولات عبد الرزاق عبد الواحد ومعه لؤي حقي ورعد بندر وغيرهما. وكان من نتائج ذلك كله أن صمت بعض الشعراء الحداثيين وهجر بعضهم الاخر حداثتهم مثل مظفر النواب الذي هجر القصيدة الشعبية واتجه صوب قصيدة العمود ذات الجرس القعقاعي محققا بها رواجا رسميا وشعبيا كما في قصيدته( القدس عروس عروبتكم)

ولم يختلف الحال كثيرا في التسعينيات التي وإن شهدت بعض الحركات التجريبية في كتابة قصيدة النثر والتماشي مع نظريات الشعرية الحداثية. وهذا الحال ينطبق على بعض البلدان العربية أيضا، فلم يكن المشهد الشعري العربي في البلدان التي حكمتها أنظمة شمولية، مختلفا كثيرا عن المشهد الشعري في العراق.

ومع بزوغ التغيير الذي به سقطت بعض الانظمة الدكتاتورية مطلع الالفية الثالثة، والتغيير الجذري الذي شهده العراق في العقد الاول من هذه الالفية، بدأت بعض بوادر التغير في التلقي الشعري تلوح في الأفق. وبدأت ملامح جينوم شعري جديد يطرأ على البيئة الثقافية العربية ضمن مرحلة الربيع العربي، أهم سماتها أنها تماشي النزوع ما بعد الحداثي للانفتاح والاندماج والتعدد.

وما عاد المتلقي يبحث عن قصيدة مترفعة وعتيدة بل يبحث عن قصيدة مرققة أي مائلة نحو الرقة والنعومة مأنوسة بايقاعات هادئة في تدفق شفاف ومؤنث، وهو ما يتماشى مع ثقافة العصر السائلة ونزعته الناعمة في تغليب الأطراف على المراكز.

واليوم لا ننظر للشعر بوصفه أجيالا وفئات، وأوزانا ولا أوزان، وإنما بوصفه قوة خفية تحطم السكون كي تحل محله نظاما هارمونيا. والاهم من ذلك أن صارت القصيدة الشعبية كالفصيحة في تلقيها ومن ثم ينبغي ألا نسمح لنزعة ذاتية معينة أن تؤثر على أحكامنا، فلا نشخص الظواهر لأجل معرفة أسباب الخراب وانما ايضا لأجل البحث عن ممكنات الارتقاء بالتلقي الشعري للفصيح والشعبي. وهذه هي مهمة النقاد وليس الشعراء. والنقد مسؤولية يثقل حملها، وعليها تتوقف ذائقة المجموع. وكلما امتلك ممارس النقد المؤهلات الكافية، أدّاها خير أداء ومن تلك المؤهلات الوعي التاريخي الذي يجنب الناقد التخبط في الظلام ويسعفه من الوقوع في الجزافية والاستلاب. وتميل اغلب التوجهات الثقافية لمرحلتنا ما بعد الحداثية الى تاكيد دور المتلقي واهمية أن يتوجه نحو التعدد والاندماج والانفتاح، اعلاء من شأن الهوامش وتأكيدا لضرورة المساواة بين المراكز والاطراف. وعندها تتحقق إضافة ثقافية من إضافات الفعل التذوقي للشعر شعبيا كان هذا الشعر أو نخبويا ليوجه في صالح الشعرية بعمومية جمالياتها المبنية على معايير كتابية شكلية ومضمونية.

 د. نادية هناوي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram