اوستاش دولوري*
ترجمة د. حسين الهنداوي
( 2-3)
ان كل اللوحات المهمة الى هذا الحد او ذاك والتي انجزها خلال سنوات عدة تستلهم نوعا من الواقعية التجريدية كما في لوحتي “الاولمبياد” و”نساء نائمات” العائدتين الى عام 1929،
حيث تعكس المظاهر المعتادة ليتم بتمثيل خطوطي استبدال واقع يمكن التعرف بعد على اشكاله الاصلية. فهي تكتفي باظهار رأس بارز او سد مسطح مرسوم بموجب الايعازات الغامضة للخطوط او الزخارف، وهي لا تخون نماذجها الاصلية الا لذات البواعث التي حكمت تطور الفن الاسلامي من اسلوب الى اسلوب ونقلة الى اخرى انتهاء باللاواقعية.
نستطيع احيانا ان نتابع، في سلسلة من اللوحات التي تستلهم الموضوع نفسه، عملا روحيا يحول الاشياء بصورة تدريجية الى خطوط وحركة تشكيلية، محاولا اعطائها معنى جديدا بعد ان يسحب منها خاصياتها كموضوعات. وفي هذا المجال نجد ان اللوحات الثلاث التي تحمل اسم “طبيعة ميتة” والتي رسمها بيكاسو في عام 1931 تناظر في خصائصها التمثيلات المتتالية لشجرة الخلود الاسلامية، اذ ان الجرة والابريق وسلة الفاكهة لا ترتبط بمعانيها الواقعية الا عبر ذكرياتها هي عن نفسها، فيما تحتفظ متعرجات محيطها الاهليلجي بحجمها الحقيقي دون مساس تقريبا، كما لو كانت تستجيب بعد للمنظور الاعتيادي، غير ماثلة الا عبر التأثيرات اللامتوقعة لعملية التشكيل، وعبر نمط جديد لا ينتمي الى عالم الاستعمال البسيط. بيد ان الخط في لوحتين غيرها، اخذ ينتزع حريته بشكل نهائي كما لو ان هذه الارابيسك تخضع للقوانين الخفية لتطورها وليس لاندفاعات الاشكال التي تمخضت عنها. واذا ما كشفت، عبر تحابك اكثر انتظاما، عن مكان وظل الموضوع الذي كانته، فان هذا الكشف لا يكاد يظهر جلياً. فالفواكه تركت الاناء لتصبح محض محيط يدور حول ظله الكسول، وهناك اخيرا اشكال اخرى وليدة لكنها لا تمثل شيئا سوى نفسها. وعموما فان التكوين كله يحقق، عبر طابعه الخطوطي وهيئته الخاصة ذاتها، درجة مذهلة من الطموحات التي نجدها بارزة في كثير من الرسوم الاسلامية.
ان تراجع الاشكال الطبيعية لا يذهب دائما الى تلك الدرجة من الابتعاد عند بيكاسو، حيث لا يفرض التجريد نتائجه النهائية الا نادراً. ولعل ما تحقق غالباً في عدد من التقنيات الاسلامية، كما في السجاد مثلا، التي تتشكل من عناصر مأخوذة من الطبيعة، هي تقنيات يمكن ان تستدعي المقارنة مع عدد من اللوحات التكعيبية. الا ان هذا الاتجاه ليس قاطعا كما ذكرنا. فالفنانون المسلمون يسعون الى طمس الطبيعة ويبلغون ذلك احيانا دون اعاقة اكتساب اعمالهم للطابع الحسي، لأنهم في مسعاهم الى “مراوغة” المبدأ الديني، وقطع الطريق على اكتشاف كائنات واقعية في ابداعاتهم، امتلكوا حيلا بسيطة جدا كالاكتفاء باستبدال قدم حيوان بأخرى لغيره، كما طوروا رسم حيوانات خيالية كطير برأس انسان، على نمط ابي الهول والثور المجنح، وكطائر العنقاء الخرافي الذي نصفه نسر ونصفه الاخر أسد، وجميع انواع الهيئات التي لا يتعرف الخالق فيها على مخلوقاته.
هذه الحاجة لخلق البدائل، حتى عبر تعامل ذي مظهر واقعي، هي اتجاه مهم جدا وعميق في الفن الحديث ولاسيما لدى بيكاسو. صحيح ان علاقة العمل الفني بموضوع توظيف العناصر، هي علاقة مستحيلة التحديد لديه بلاشك ، كما لدى كل فنان.
الا ان العمل فيها يبدو غالبا غير آبه لا بتطهير الموضوع ولا بتكوين تعبير اكثر ذهنياً عنه، انما فقط بطمس هويته الاصلية، طارحا اياها مستورة مقنعة. ونحن نعرف تكويناته ولاسيما في اعماله الاخيرة، حيث يتردد مثلا شكل فم يمثل كل الوجه، او فم يدفع قمة الرأس بغرابة، والى غير ذلك من اشكال مغايرة لما تريد التعبير عنه (وجه يشبه القرن، جسد انساني له هيئة اخطبوط باذرع عديدة، ومهرج بهيئة قيثارة).
وهذه الاشكال المبهمة تدفعنا الى تذكر رد ابن عباس عندما سأله رسام فارسي “اذا كان عليّ ان امتنع عن رسم الحيوانات فكيف اواصل مهنتي؟”. فرد عليه ابن عباس قائلا “اقطع الحيوان الى اجزاء كي لا يبدو حقيقيا، او اجعله على شكل زهرة».
وهذا هو ما يفعله بيكاسو، كأي مسلم اصيل، عندما جعل من الاشكال التي رسمها محض طبيعة ميتة، كما لو انه يحرص كل الحرص على عدم مواجهة اشباحه يوم القيامة، ويجد نفسه مرغما على اعادة الروح اليها.
وبالفعل، فان تلك الاسطورة العربية ترمز بشكل جيد ربما، لهذه الاهتمامات التي تبرزها شتى الاشكال في فنه المزدوج الهيئة والغامض الى اقصى حد. فبمواجهة تلك اللوحات يتوجب على كل واحد منا وضع نفسه في مكان “رب” يحرص على احراج الفنان، ويجب الا نتعرف فيها على العالم الفعلي الذي سعى الفنانون الزائفون الى اعادة انتاجه بأمانة، بينما هناك الف وسيلة ووسيله لجعله مستورا دون الحاجة الى انهاك المظاهر او القطيعة مع اي من الاشكال التي يقدمها العالم.
وبيكاسو شأن الكثيرين من اتباع الفن التجريدي، لم يؤمن ابدا بضرورة اقصاء العناصر الواقعية من لوحاته. ففي هذا الفن الذهني نرى اجسادا وموجودات اكثر مما في فن الانطباعي كوربيه، الا ان هذه وتلك مقدمة بشكل مجرد لتفقد هكذا اي مضمون يوحي به اصلها. بيد انه لا يمكن الاستنتاج، كما هو حال الرأي التقليدي، بانها تشوه الواقع كي تشير له بشكل افضل. انما نقول انها توحي بما لا تمثله، وهنا يكمن اعجازها الخاص، ولهذا ينبغي الكلام عن التقنيع والستر. فما يريده بيكاسو وبأي ثمن هو ان يجعل ما يعبر عنه غريبا عنا بما يضعه بنفسه هو من اشكال على اللوحة. ولعل هذا ما يفسر طابع التورية والتلغيز و”خداع النفس” الذي تحمله العديد من لوحاته حيث يقترح جملة من الالغاز الرمزية المكابرة لا نستطيع فكها الا اذا كنا، نحن ايضا، فنانين. ولا تقلل من قوتها ملاحظتنا ان الرسام يجعل من المراوغة غاية اساسية له تماما مثلما يفعل الفنان المسلم مع الدين، وعليه، فان فن بيكاسو ليس طبيعة عارية او مجردة انما هو، وكما قلنا، طبيعة مزورة.
ففي هذين الشكلين اللذين يأخذان لدى بيكاسو طابع الخوف من الواقعية الغربية، ويقدمان كلاهما تماثلات فريدة مع اتجاهات الفن الاسلامي، نرى عبر اية طريقة غامضة ومعقدة تتحدد العلاقات التقليدية بين الموضوع وتعبيره الجمالي. اي معا وفي الوقت ذاته، عبر اهتمام بالموضوع هو لا مبالاة به ايضا، وعبر بحث عن تجريد مشحون بكل ما في الواقعي من قوة.
وهذه الطريقة تنجب تناقضا لا يخشاه بيكاسو، ولا يسعى الى تهميشه الا عندما يصبح صعب الاحتمال، الامر الذي يفسر ويبرر ربما الانطباع الخاص بوجود لا توازن يثيره مثلا، في عدد من اللوحات، البروز المفاجئ والفضائحي تقريبا، لشكل واقعي بين مجموعة من التكوينات تعود باكملها الى المخيلة. وباهتمام مماثل وجد متعة، في الفترات الذهبية التكعيبية، في خلط موضوعات واقعية، كقطعة جريدة او طابع بريدي، في تكوين يبدو فيه التوظيف الصارم للمخيلة التجريدية رافضا لأي نوع من انواع المحاكاة.
هذا التناقض الاساسي والسعي الى حل له، يتواجدان في مكان آخر. فالتكعيبية كفن تجريدي، وكأي ابتكار، لم تسع الى التخلي المجاني عن التصور الحسي انما جهدت، كفن ذهني، لكي تظل حسية وعملت، في حدود الحركة الهندسية كليا لانشاءاتها، على اضفاء بعد جمالي على رونق التكوينات والنماذج الهيئوية التي يتم ادخالها.
بلا شك، ان الفن الاسلامي باعتماده الطابع الخطوطي المحض للزخارف بوجه عام، يتخلى في الاغلب عن ذلك الشاغل (وهنا يكمن التباين الجوهري بين الحالتين). الا انه وبرغم اقتصاره على بعدين فقط، يعطي، في افضل منجزاته، الانطباع بوحدة لا نهائية بين الصرامة والحرية، وبين الانتظام والابتكار. وهذه تظل احدى اكثر مميزات الفن الاسلامي غموضا. فخطوط الارابيسك المنتشرة بسخاء على كل المشهد والمثيرة لما يشبه الدغدغة في العين، تبدو وقد نمت عن طريق المصادفة، في حين ثمة نظام دقيق هو الذي يتولى جمع كافة العناصر فيها، كما لو ان هناك مخيلة هندسية تحرس اهمية المفاجأة والكشف في هذه الشبكة الواسعة حيث حركة الخيال حرة تماما. فها هو نتاج الحساب يبدو بمنزلة نزعة كسل بارع لروح متعلقة بكل خط لذاته في ذلك النسيج الذي يتحول الى مجموع شديد التناغم بفضل تلاقي كل خط فيه مع الاخر.
هذا التوازن ونمط الحياة المجرد فيه نجدهما، تحت اشكال اخرى في العديد من نماذج بيكاسو التي تجسد المثال الاكثر تماسكاً في اعماله الواسعة التنوع. فهو ومنذ محاولاته الاولى، رفض ان يجعل من اللون حكماً في نتاجه، انما وعبر معرفة واثقة بطاقته الحقيقية، عهد الى سلطة الخط وحدها تلك الجرأة المتفجرة التي سعى لها الفوفيون في السيمفونيات الملونة.
وهكذا، فمع ضربة الحظ المجردة غير المنشغلة الا بالقيم الجوهرية، والناجية تقريبا من الكسل المحسوس جدا، يخلق بيكاسو عالماً يحمل كل الهيبة والنفوذ وكل الاستباحات الضوئية الخارقة. واعماله التي نستطيع اعتبار بعضها اكثر روائعه اكتمالا، هي افضل الامثلة في التعبير عن تلك التحولات كما في لوحته “تحولات اوفيد” حيث التضارب الضعيف بين الابيض والاسود، يمنح نفسه حياة خاصة بفضل بيضوية الخط المتقطع بموجب سلسلة من القيم تستقبلها العين كدفعات من النغمات المتنوعة، اذ تبدو سحبة الخط بقوة اشراقتها ورقتها، كما لو انها دفقة من الالوان الفعلية، مما يعيد انتاج ذات الانطباع لحظة الوقوف امام بعض الرسوم الاسلامية، اي الانطباع بان لعبة الخطوط تسحر الضوء عبر ما تنجبه في داخليتها من تخيلات ومن احتقار للالوان.
منشور في مجلة الفنون الجميلة – باريس 1932