حيدر المحسن
- 2 -
أتذكر، رغم أن تذكّري المشهد المقصود قد يكون مضطربا، حين تغادر إيما بوفاري بيتها قاصدة حياتها الجديدة. لكن وصف فلوبير لخطوتها الأولى لن أنساه، لأنه صار عنوان كتابي الشّعري الأول: “خطوة الذئب”. وضمّتني في أحد الأيام جلسة مع سيدة لبنانية تجيد الفرنسية، وأهديتها الكتاب.
شرحت لي أن الفرنسيين يعنون بها الخطوة التي لا تُسمع، بل تُهجَس. ولا تشبه امرأة محمد خضير في قصّة “المئذنة” السيدة بوفاري في شيء، رغم أن المرأتين تمتلكان طويّة واحدة. هذه تعيش في الشرق، وتلك هي إيما بوفاري، ونسب كاتبنا لخطوات امرأته وهي تغادر بيتها قاصدة المبغى إلى الثعلب لأنها كانت مخاتلة، بينما تغلب الجسارة على اندفاعة إيما بوفاري في اتجاه عشيقها. ورغم ابتعاد طريقي المرأتين عن بعضهما بعضا، لكن هناك مسرب واحد لخطاهما. يقول الكاتب عن امرأته، وهي تسير في الشارع “إنها تستردّ الآن خطوات الثعلب القديمة، فهي الوحيدة التي تسير في الكورنيش، والمهرجان المتحرك يخصّها وحدها: من أجلها تزعق أبواق السيّارات، والأوراق تحتكّ، والماء يتلوّن، والشمس تهبط، والآخرون يبتسمون - ستزهر تفاحاتها»، وهذه الغُلمة وهذا الشّبق كأنما خُطّا بقلم فلوبير عن سيّدته...
فائدة جديدة للاستعارات في الأدب أنها تمنحنا دفقا إضافيا من الوجود، وبهذه الطريقة تطيل أعمارنا دون أن ندري. إطالة العمر تمتد بالزمن في اتجاهه العكسي، عند إتيان القارئ على رموز محمد خضير الوصفية في قصصه، ذلك أن التجريدية هي صورة الوجود معكوسة في داخل العين البدائية، وهي طريقة التعبير في سنين الدهشة الأولى لدى آدم الحيواني المنعزل، الحلقة المفقودة بين الإنسان القرد وإنساننا، والفن التجريدي هو الطريقة الوحيدة المكتشفة للعودة إلى ذلك العالم، ومراقبة ما كان يجري في جهات الأرض بعينين لا يشغلهما شيء غير أن تبصرا بالعين والروح في الوقت ذاته. هل كان القاصّ على دراية بما بلغه الفن التشكيلي على يد روّاد التعبيرية التجريدية، مثل كاندنسكي وبراك وبيكاسو؟ هذا احتمال، ومن الجائز أنه توصّل بمفرده، ومن خلال الأوصاف في فن القصّ، إلى النتائج نفسها التي غيّر بها الرسّامون مسار الحداثة في التشكيل الفني في القرن الماضي.
«إن الاستعارات التي تكون محفورة غالبا في كلامنا الحالي كانت ذات يوم تجسّدات حيّة لإدراكات حيويّة لأناس لا ندري شيئا عن وجودهم في عالمنا العقلاني المخدّر». وردت هذه العبارة التي تثير التأمل أكثر من التفكير في مقالة للناقد تيرنس هوكس، أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة كارديف في بريطانيا، في بحثه القيّم عن الشاعر شيلّلي. ويصحّ هذا الكلام عن التشبيهات التي تتبع نظام البلاغة التقليدي، وهي قليلة في “المئذنة”، منها قول الكاتب عن دار البغاء بأنه “بيت الضّفدعة”، وتشبيهه لساعة القيلولة ب”عبور قنطرة فردوس”، وكانت لدينا استعارات شعرية عديدة في القصة، مثل وصف الكاتب لسقوط الماء في حوض النافورة في الحديقة ب”الحفيف الخفيّ لبزوغ القمر، وانبثاق الأزهار، وقدوم النعاس”، وتذكّر أقواسُ المياه الساقطة المرأةَ “بعين طازجة تتفرّس عن قرب شديد في عري جسدها”، أما أكثر الاستعارات التجريدية إمتاعا فهو تشبيه المرأة وهي تحتضن العجوز ب”خنفساء تزحف على جدار ليّن، فلا تُميز أو تُرى، ولا تُشمّ رائحتها”. لا علاقة لهذه الحشرة بخنفساء كافكا الشهيرة، فهنا الوصف جماليّ بحت، بينما ذهب كافكا إلى العلاقة بين العامل وربّ العمل، والمدينة الحديثة واستلاب الإنسان فيها...
يقول الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز: «تخلق الاستعارة واقعا جديدا يظهر خلاله الأصلُ وكأنه غير واقعي”، و»الواقع فكرة مبتذلة نفرُّ منها عبر الاستعارة»، و”في نهاية المطاف، الحقيقة ليست أمرا ذا شأن”. لو أننا خلعنا من “المئذنة” الأنواع الثلاثة من الصور المستعملة: البلاغية والشّعرية والتجريدية، ما الذي يتبقّى من النصّ؟ ذكر فؤاد التكرلي حقيقة فنية ووجودية في إحدى مقالاته، وهي قريبة جدا ممّا توصّل إليه الشّاعر الأمريكي: “إن الشّخصيّات في القصّة حقيقية أكثر من تلك التي تعيش في الواقع”.