طالب عبد العزيز
في العام 1809 أمر جورج الثالث ملك انجلترا بتعيين الدكتور كيت عميداً لكلية ايتون المعروفة بطلابها أبناء الطبقة الاستقراطية، كان شديداً مع الطلبة، ويؤدب بالفلقة، الامر الذي لا يعيبه أحدٌ عليه، حتى أنَّ الوجهاء والاعيان والاثرياء لا يجدون حرجاً في قسوته على أبنائهم، فهو رجل معروف بحرصه إذا ما علمنا بـأنَّ اغلب الوزراء وأعضاء البرلمان والاساقفة إنما مروا من تحت فلقته هذه.
وفي كتاب (اندريه مورا) عن حياة الشاعر الانجليزي (بيرسي شللي) الذي ترجمه أحمد الصاوي نعرف أنَّه في السنوات الخمس التي يمضيها الطالب في الكلية هذه سيكون الطالب قد قرأ مرتين هوميروس، أمير شعراء اليونان، وفرجيل امير شعراء اللاتينية، وفيها سيكون الطالب المتزن قد استقصى هوراس، وانشأ نقداً مقبولاً عن مادة ما، وعرف الكثير عن أمير البحر نلسون، الذي هزم نابليون في معركة واترلو، نلسون، صاحب التمثال الشهير، في لندن بالقرب من البكادلي.
في الكلية هذه كان شباب الطبقة الأولى يتذوقون الاقتباس من اللاتينية، حتى أنه لما شرع عضو البرلمان (بث (Bitt بالقاء خطابه في مجلس العموم، وأخذ يردد بيتاً من قصيدة وطنية مشهورة لفرجيل، وقف المجلس كله، يردد القصيدة كرجل واحد، لنعرف أنَّ أعضاء المجلس مجتمعين إنما تربّوا على حسٍّ وطني واحد، يصلهم بأمجاد بلادهم وعظمتها، بما يجعلهم يفاخرون بالانتماء للبلاد، التي لن يكونوا شيئاً خارجها. وسنعلم فيما بعد بأنَّ الشكَّ الديني جريمة، وأنَّ العلوم غير الزامية في الكلية، لكنَّ الرَّقص كان إجبارياً على يد كيت.
لم يكن كل اعضاء مبنى البرلمان في ويستمنستر بمستوى وعي واحد، أو انتماء عرقي أو ديني واحد بكل تأكيد، لكنهم مجتمعين يشعرون بأنهم أبناء انجلترا، وأنَّ البلاد هذه هي التي تتقدمهم، وبغض النظر عن قسم الولاء الذي يؤديه العضو أو الوزير، ليس في بريطانيا وحدها، إنما في أغلب الدول هناك جملة ضوابط دينية واخلاقية ووطنية تجعل من الوظيفة المناطة بهم فوق كل اعتبار آخر، وأيّ تقصير فيها يعد جرماً، يحاسب عليه، ولا يقْدِم عليه إلا الخائن والعميل، أما أقسى ما يعانيه المتهم بهذه وتلك فهو مستقبله السياسي، ومستقبل عائلته، بمعنى هناك تشنيع مجتمعي قاسٍ سيتعرض له داخل البلاد، سيلاحقه وعائلته عارما اقترفه الى الابد.
ربما تكون السطور تلك محطة لتأمل صفات الطبقة السياسية العراقية اليوم، واستهتارهم بالتعليم أولاً، الذي منه ينشأ مبدأ الوطنية والتعلق بالاوطان، ووجوب الحفاظ على ترابها وأمن مواطنيها وسلامة اقتصادها. بين آونة وأخرى تشهد البلاد فضائح تزوير لشهادات أعضاء في الحكومة، وهناك من يدخل العمل السياسي من لم ينتم يوماً للوطن، بل وهناك من ظل يجاهر بولائه لإيران والسعودية ومصر وغيرها، ولا يؤخذ بناصيته. لم يجتمع تحت قبة البرلمان إلا نفر قليل من العراقيين، المخلصين، ولم يستوز في العراق طوال عقدين من الزمن إلا القليل من العراقيين، الذين يرون فيه الأرض والوطن والأهل. نحن هنا، لا نطالبهم بترديد النشيد الوطني، ذلك لأننا بلا وطن، بعد أن جعلوا منه خرقةً لكل القذارات. كل أعضاء البرلمان والحكومة البريطانية أجبروا على الرقص، لكنهم ظلوا مخلصين لانجلترا، وكل اعضاء حكومتنا اجبروا على الصلاة والصوم، لكنهم جبلوا على خيانة وسرقة العراق.