في يوم من أوائل أيام عهدي بلندن، وقفت تحت مطر غزير وأنا أقول لأصدقاء ان "كل أمطار الدنيا لا تبللني". تذكرت تلك الحادثة وانا أقرأ العبارة نفسها منسوبة الى الروائي البريطاني جوزيف كونراد، من قبل صديق كان قد سمعها مني، ولكن لعل الذاكرة خانته.
ولقد شكرته مع نفسي لأنه رفع قدري الى درجة نسبة كلامي الى كونراد! وايضا لأنه أحالني الى أيام كان التعبير فيها عن النفس يتسم بشيء من الحرارة. والعبارة، على بساطتها، مركبة نوعا ما في التعبير عن تعاسة عربية، صحراوية. فكم من مياه الأمطار تحتاج الصحراء حتى تبتل؟ وكيف تتكرم السماء بالغيث على صحارى تبطن المياه في اعماقها، ولا تتكرم بإظهارها، لتتبخر وترتفع للأعالي وتبدأ التحول والعودة.
والماء ليس رمز الحياة بل لعله الحياة ذاتها. تماما مثلما أن الصحراء ليست رمز الجدب بل الجدب ذاته. الأرض اليباب اذا شئتم. حيث كل شيء فيها عنيف، شديد، شحيح، جاف، وطارد. الصحراء تكره الحياة، تمقت البشر، تذل الناس، تخشى الجمال، تعرف الحرب، تجهل السلام، تفقر الخيال، تعادي الحضارة.
واذا وصف المرء نفسه بأنه صحراء فهذا اعلان عن منتهى التعاسة. ولكن من هو الشخص الذي ليس بصحراء في العالم العربي؟ من هو العربي الذي ليس هو بهذه الدرجة أو تلك من الصحراء؟ هل يوجد العربي الثري الشبعان من الغيث، الشجر، الأمن، الجنس، الفكر، الإبداع، الحرية؟ من العربي المؤمن بالصحراء ومن العربي المقاوم للصحراء ومن الذي قطع معها وجعلها خلفه؟ من يحمل رسالة الصحراء ومن يحمل رسالة الخضراء؟ من هم عرب الموت ومن هم عرب الحياة؟
في البلاد العربية الخضراء حملت السياسة أشخاصا من العدم ووضعتهم في سدة الحكم والرئاسة. وانهالت عليهم الثروات والأمجاد، ولكنهم لم يتبللوا. ظلت الصحراء عقيدتهم. فكان أن تحولت على أيديهم الأرض المزروعة الى أرض محروقة. الى صحراء. وحدث العكس أيضا. أبناء الصحارى قاوموها واحالوها الى خضراء.
عقل الصحراء يستعير عقل الماء: دبي تصنع معجزة. وعقل الماء يستعير عقل الصحراء: بلاد الشام ترتد الى مفازة. ولكن لأمر ما يبدو "عقل الماء" في الحالين قناعا. الصحراء هي الأصل والفصل. فالعمران لا يجاوز الأبدان الى الأذهان. ويبدو لذلك مهددا. الصحراء باقية مخيفة في خلفية المشهد. تهمس، توحي، تتكلم، ولا تهمد.
ولن تهمد الصحراء حتى نعرف الصحراء. عندها نتجاوزها دون خوف. فالمعرفة تطوي الخوف. والخوف من الصحراء بحد ذاته صحراء. انه كذلك الخوف من الفقر الذي اختبره ولم يتحرر منه شاعر الصحراء الأعظم: "ومَنْ ينفقُ الساعات في جمعِ مالهِ/ مخافةَ فقرٍ فالذي فعل الفقرُ". نحتاج الى فهم الصحراء حتى نتحرر من أسرها، ويقل اعجابنا بها، ونصنع حاضرا نعجب به أكثر، ومستقبل نتوقع أن نعجب به أكثر من الحاضر.
نحتاج أولا الى أن نتبلل. الى الإيمان بإمكانية أن نتبلل مع أول مطرة تلامس أجسادنا. ان الفرد هو ما يؤمن به. يَميهُ حين يؤمن بأنه ماء. ويتصحر حين يؤمن بأنه صحراء. وقد كنت أشكو من صحرائي مر الشكوى. وكنت محقا. ولكنني بعد هذا العمر تبللت حتى الغرق. ومع ذلك بقيت الشكوك تراودني. فمن كانت بدايته صحراء هل يمكن أن تكون آخرته بستانا؟