ياسين طه حافظفي المدينة البعيد دائماً ما توجد ورشةٌ سرّية، بيت مُوقَدَةٌ نارُه حتى الصباح. هذه العزلة، أو هذا المختَبر السرّي، أو هذه الورشة، بلا لافته ولا اسم. هي واحد من بيوت مثقفي البلدة، يعملون فيها بصمت، رحاهم مثل رحى الله تطحن ببطء ولكنها تطحن ناعماً ناعماً..
هذا الكلام أردتُه مدخلاً للحديث عن بصرة الابداع والدأب الثقافي. فتلك الوجوه الملفوحة قيظا وضيماً وعسراً لا يبدو لتُحَفِهم المثيرة انتهاء. اولاء يفرحوننا بين حين وحين بعمل مبهج، نرفع لهم أيدينا من بعيد محيّين ومعلنين احتفاءنا بغلبتهم، بانتصارهم الباسل على اليباب وعلى الهواء الساخن يبدأ معهم من الصباح وقد يهدأ وسط الليل، والثناء لريح الشمال.. في البصرة شاعر، كاتب، دارس، تتوالى كتبه ويثير عجبك .. متى انجز الرجل كل هذه الاعمال؟ وأي شغيل أدب باسل هذا المكافح الذي لا يكلّ؟اصارحكم، قبل مربد 2006، لم أكن اعرف عبد الرزاق صالح، بل لم اسمع به. التقيت به في البصرة، ودائما التقي في البصرة بناسٍ لهم مذاقٌ شخصي خاص، وامتياز فردي خاص ولهم في الحب تجارب فريدة خاصة.. ولاتجد في البصرة أديبين متشابهين، لا في المزاج ولا التكوين ولا في الكتابة ولا في طريقة الكلام .. هي ملحوظة مني اراها جديرة بالتأكيد .. وعبد الرزاق صالح واحد متميز من ذلك الجمع الخير الذي لا يكلّ ولا تبطل مودتي لهم.امامي رزمة من كتبه، لا من كتب مكتبته ولكن رزمة كتب من تأليفه، من انجازه الشخصي .. فهذا ديوان وهذه دراسة ونقد، صفّ جميل من الكتب دفع اثمان طبعها من جهده اليومي، من عذاب العيش في العوالم الصاخبة الصعبة.اما ان يتحدث في شعره عن "حوريات الفردوس الارضي"، فانا معه، وقد تأكدت، ان في البصرة حوريات، كما تأكدت ايضا ان البصرة فردوس ارضي، وليقُلْ الجغرافيون ما يقولون !وما ان فتحت "الاسطورة والشعر"، الا وقد رأيتني مستمرا فيه، استعيد معلومات واستضيف معلومات جديدة، وأبارك هذا الرجل المُجِدّ، الزارع الصلب في الارض البور..دستويفسكي، كان وما يزال حقل دراسات والمدى الذي تحرّك فيه صديقنا عبد الرزاق صالح، يمكن ان أصفه بـ "المدى الغربي" ذلك انه اعتمد على رؤية بردائييف واتباعه من بعده. ولبردائيف رؤية خاصة رفضها المنظرون الروس ورحبّ بها الغرب واشاعها. اعتمدت هذه الرؤية على اغفال عنصر الثورية وتأكيد النزوع الانتقامي الساخط، على المرض الذي اسموه بـ "دوستويفشكينا"، والذي اسس لهذا المنظور أصلاً هو روزانوف Rosanov وروزانوف هذا كان يقول "بان دوستويفسكي اعاد التذكرة لله .." معترضا على اللامستحقين. وعلى معاناة الاطفال.ولكن هذه الفكرة اصلاً وردت لدوستويفسكي نفسه في الاخوة كرامازوف، ولكن بمفهوم مضاد تماماً، لقد وردت بمفهوم ثوري غير الذي ارتأته مدرسة بردائييف .. فقد جاء في الاخوة كرامازوف ان طفلا في الثامنة تأكله الكلاب امام عيني امه .. فيقول بعض "الظرفاء"، من يدري اذا ما عاش هذا الطفل فقد يرتكب خطيئة! دوستويفسكي يعقب على ذلك: ولكنه لم ينل فرصة عيشٍ اصلاً، ليعِشْ اولاً، ثم نرى! وهذا هو منطق الثوريين التقدميين والمنظرين الثوريين... ولا يخفى على الاستاذ عبد الرزاق صالح ما وراء الكتابات المسيحية – الغربية، وبخاصة في تلك الازمنة المنحازة .. تمنيت انه اطلع على كتاب اعادة قراءة دوستويفسكي لـ كارياكنRereading Dostoyevsky by Y. Karakin ومقالتينا عن دوستويفسكي بعنوان : لكي "نعيد الى الادب كرامته" وفيهما قراءتي الشخصية لهذا الكتاب الكبير.المهم ان أفكاراً جديدة وقراءات حديثة عديدة صدرت في العقود الثلاثة الاخيرة تمنينا لو تيسّرت لكاتبنا العزيز المحترم. ولكن كلاً يعمل بما يتيسّر وليس لنا الا الثناء على جهده واستنباطه مما وقع تحت يده. ويبقى "كشوفات دوستويفسكي كتاباً وراءه لمسة متفحص عراقي بعيد عن الضدَّين .. استوقفني "كشوفات دوستويفسكي" لأهمية المسألة التي وراء موضوعة دوستويفسكي. وقد كنت قاصداً الاشادة بجهد بصريٍّ متواصل يستوجب تقديرنا. واخلص الى القول بان عبد الرزاق صالح طاقة عملية وشغيل أدب يكدح ويُنتج بشرف وان ما قدّمه حتى الآن يلزمنا بتحيته و الاشادة بما قدم نوعاً وكمّاً وحرِصاً ودَأََباً .. لك، ايها البصري المتوهّج تحية الادب، ولستَ أبداً، كما تصف نفسك "زفّة" الاحتفالات الخائبة في زمن النار ..." انتَ، بسِحْنة البصري المُتْعَب، نعم، ولكنك تقف بهيبة ملكية لا ترى الانتصار بعيداً. هكذا اقرأ قصيدتَك "النار" وعفواً إذا غيّرتُ قليلاً فيها وأن أفهمها بالطريقة التي تُرضيني ...