طالب عبد العزيز
اشياء كثيرة باتت فائضة عن حاجاتنا، بل ليس لوجودها معنى. هذا العمر الذي لا طائل منه، ما هو إلا مراكمة سنوات، وقد امضيناه في بلاد لا معنى لوجودنا فيها، ولا معنى لوجودها فينا، في بيوت أو بين أناس لم يفرقوا بين حقيقتنا وأخطائنا.
أطنان من الكلمات والأوراق قرأناها أو كتبناها، ولم يتنبه لمقاصدنا أحدٌ اليوم، صداقات لا حصر لها عقدناها مع اناس لم نعد نتذكرهم اليوم، وأحاديث بلا نهايات معلومة لها، امضينا الليالي الطوال، في الغرف المغلقة، مع دخان السجائر وأكواب الشاي، أيام كانت السياسة تعني الجزء الأكبر من الحماقة. على أي شيء نأسف إذا ما فاجأتنا النهاية العميقة.
بحوار صامت، أو معلن مع النفس، ساعة أكون خارج البيت، أو متخذاً جذع نخلة منتبذاً، كثيرا ما أحدّث نفسي عن جدوى السنوات التي أمضيتها رهينة الجسد، الذي صرت اليه، فأقول: هبْ إنني كنت في مدينة غير هذه، وأنعمت علي بما بين يديها من الهبات، الطبيعة والنظام والناس والمال.. أتراني غير انا؟ فيجيبني الجسد ذاته:لا. ترى أمن أجل ماذا حشرتُ فيك؟ وانت تبلى كل يوم؟ وتتكشف حقيقتك ساعة اثر أخرى؟ فيقول: لا أعلم، أنت دخلته.
توهمنا الفلسفة بتفسيرها للسعادة، ويخفف الكهنة ورجال الدين من مادتها فينا، بينما هي الوهم عينه، نحن نكذب على أولادنا في المهود، نقول لهم بأنكم الحياة وزينتها، ونحن مخلوقون لهم، لأسعادهم، نكدح ونشقى ونموت للحياة التي تنتظرهم، وهم يصدقون، ومثلهم نصدق، يا لغبائنا. لا ينفكُّ الانسان يخلق أوهامه حتى يقبر، هذا التكرار غير المنته، متوالية الوهم والاكاذيب إلى متى؟ عاش آباؤنا وأجدادنا حياة هي الشقاء والكمد بعينه، ولما يئسوا منها قالوا لنا بأنَّها ستكون أجمل ذات يوم، لكننا لم نر الجمال الموعود ذاك، وها نعيد الغفلة والحمق والجنون ذاته فنقول لأبنائنا بانها ستكون أجمل. منذ قرون ونحن نرث الكذب عن بعضنا، ويصدق بعضُنا البعض، يا لهذا الارث الفج.
يصعد الخطيب منبر المسجد فيقول في الناس ما قالت به سلالة الرجال الخطباء، ويختم قائلا: قل أعملوا فسيرى الله.. ويقف الشاعر في الحشد محمولا على الاكتاف، منشداً الاوطان والتواريخ والسلالات والامجاد (الامجاد) هل للانسان مجد سوى الموت؟ ومثل هذا وذاك يفعل صاحب الصنعة، صائغ أساور النساء، والحداد، متقن القدّوم والرفش، ومشيد القصور، وغارس الفاكهة وبائع الفوانيس.. وغيرهم، من كان معافى منهم والسقيم، من مَلَك ومن لم يملك، من جال في البلدان، وعرف الثغور ومن ظل حبيس بيته وبلدته، ومن أنفق السنوات في الامل وإيقاد الشموع، ومن كان حلمه زيارة البيت والاقامة بين الاضرحة والمزارات، كلهم بانتظار الحقيقة الكبرى، التي ظلت تتمرأى للجميع في فكرة ساذجة، أو كمنت مثل لغم في كيس الحقيقة.
منذُ خمسين عاماً وأنا أقتطع من الصحف والمجلات ما أحببته، قصائد وقصصا وصوراً، أدسها في جيوب الارفف والخزانات، أحفظها، وانقلها معي من بيت لبيت، وأحرص على وجودها بمنأى عن الرطوبة والبلل وأضنُّ بها على زوجتي وأبنائي وأحفادي أيضاً، فهي أنا، الذي لا يدخل جسدي إلّاه.. الآن، وقد مضى نصف قرن على استلابها المال والوقت والجهد والصحة ماذا سأفعل بها؟ الى أي من أبنائي سأسلمها؟ وهبني فعلت وكان الأمين عليها؟ ما عساه سيفعل بها؟ مثل الأوراق والخطاطات والصور هذه أفكر في التخلي عن كثير مما ألتحفُ وأحتذي ومما لم يكن له معنى، هل للأشياء معنى؟