حيدر المحسن
كتب وليم بليك: القاعدة العظيمة والذهبية للفن والحياة هي أنه كلما كان الخط الفاصل أكثر تميزا وتحديدا، كان العمل الفني أكثر اكتمالا. إن جميع الكائنات التي تعيش بيننا، ومن ضمنها الإنسان، نمتلك عنها صورة غامضة، ولكن محددة ومعرّفة جيدا،
والصفات الثلاث هذه تدلّ على حيوية الشخصية القصصية، أو أن كاتبها يريد لها أن تضمّها مقبرة الأدب. بعبارة أخرى ينبغي أن تحيط هالة من الغموض هامةَ البطل من أجل أن يكون مقدّسا في محراب الأدب، ذلك أن الغموض وحده يقرّبه من أن يكون كائنا حيّا، وعندما تفتقر الشخوص في القصة إلى الصّفات الثلاث التي مرّ ذكرها، مجتمعة، يموت كلّ شيء في القصّة، وهذا ما يجري في الأدب الذي يُدعى في كتب النقد بالواقعي -قصص يوسف إدريس مثلا.
هنالك من الفنّ ما لا يملك من الكفاءة والجرأة في الحديث عنه غير صانعه، وبالنّسبة إلى فنّ القصّ، فإن كلّ قارئ له أن يفعل شيئا خاصّا به، وهو يواجه ما يثير الاضطراب في النّفس والفكر معا. وفق هذا المنظور سيتمّ التّعامل مع هذا المشهد في قصة “المئذنة”، ولأهمّيته البالغة أستحضره كاملا هنا، وكلّ جملة فيه تنطلق من تجربة حقيقيّة، وكانت المرأة واقفة أمام مرآة الزينة في بيتها: “وحملت لصدرها الحلية الزجاجية التي صنعت بشكل أبي بريص. وعندما اصطدم دبوسها بلحم صدرها فجأة امتلكتها رعشة عتيقة الأثر، رعشة باردة مدنسة، وتركت الحلية تسقط من بين أصابعها لرف المنضدة حيث أحدث سقوطها صوتا مكتوما حسبته مفرقعا وسط السكون السائل، غير أنها عادت والتقطت الحلية وثبتتها لصدرها بإصرار مكبوت، وابتسمت للمرآة ابتسامة النمر المتخاذلة”.
لا توجد قراءة مُنكَرَة تماما أو منصفة لأيّ نصّ أدبيّ فيه قبس من الإبداع، كما أن القراءة البعيدة جدا، ولنطلق عليها اسم اللانهائية، أو النهائية -الفرق بين المفردتين معجميّ وليس حقيقيّ، فنهاية كل شيء هي لانهايته- هذا النوع من القراءة غير موجود في دنيا الأدب، وهي ميزته التي تنزّهه عن أن تكون مادته شراب الصّحافة الذي يتقبّله النّاس جميعا صباح كلّ يوم مثل قَدر عامّ لا يفلت منه أحد، وطعمه لدى الجميع واحد.
كلّ قراءة هي إبداعية حين تواجه مشهد مرآة الزينة، وبسبب كثرة التفاصيل فيه قسّمناه إلى نصفين، الأوّل ينتهي في لحظة سقوط الحلية من يد المرأة، والثاني يختمه القاصّ مع ابتسامة النّمر: في القسم الأوّل أعطى الإحساس بثقل الدبّوس وبحجمه -ويظهر في القصّة مثل أداة ارتُكِبت بها جريمة- المشهد ظلّا إيروتيكيا دنِسا لم تحتمل المرأة التي كانت ترقد جنب الوسادة -القلب الأبيض- قبل لحظات وجوده، فسقط منها. وفي النصف الثاني نرى بوضوح نَهَم المرأة إلى الوجود، مع ما تمتلكه من غنى حسّيّ يمتدّ من نقطة البداية التي تنتشر عبر تضاريس جسدها، وتتمركز في بوابة الكون... تُنكر الكاتبة «أناييس نن» على النّساء ارتداء بنطال الجينز “الذي يجعل جسدها يبدو كجسد الرّجل، وعلى ما يبدو بفتحة اختراق واحدة لا غير، ذلك أن شهوة المرأة تنتشر في أنحاء جسدها كلّها، وطريقة لبسها اليوم هي نفيٌ تامّ لهذا المبعث». يمتدّ هذا النّهم بالمرأة إلى الوجود ويمتدّ غناها الحسّي إلى آخر نقطة في نهاية الكون (لا نهائيّته).
يتكرّر مشهد مرآة الزّينة في أغلب قصص “المملكة السّوداء»، ويخلق صورة من صور الحياة، ويزيده المؤلّف روعة في كلّ مرة بتفاصيل جديدة، وهو، بالإضافة إلى موضوعة الغائب التي مرّ ذكرها في مقال سابق، يشكّل لازمة تتكرّر في القصص، لا يملّ منها الكاتب، ولا يريد لها أن تنتهي، فهي جوهر الوجود البشري، يعادل ما يحيط به من ثيمة الغياب. فلو أن الغائب استفرد بنا، ولم ينقذنا فرج المرأة بفيض الحياة الذي يتدفّق منه، لفنيت الحياة على الأرض في أقلّ من لحظة.