لطفية الدليمي
من بين الكتب الجميلة التي انتظرت قراءتها طويلاً كتاب (توبوس: حكاية مكان وزمان) للمعمار – الحكّاء البغدادي معاذ الآلوسي. الكتاب – كما قد يعرف معظم القراء الشغوفين بمؤلفات الآلوسي – هو الثاني في ثلاثيته المبهرة (نوستوس – توبوس – ذروموس). قرأت نوستوس قبل بضع سنوات ؛ وعلى هذا فقد بقي لي أن أقرأ كتابه الأخير (ذروموس) لتكتمل قراءتي لثلاثيته.
معاذ الآلوسي أكبر من معمار. هو معمارٌ فيلسوف حكّاء يعرفُ أنّ الغرض من أي تخصّص مهني هو الارتقاء بحياة البشر وجعلُ العالم مكاناً أصلح للعيش بقياسات إنسانية شاملة لاتستثني أحداً.
أظنُّ أنّ كلّ من يقرأ كتاباً للآلوسي من سلسلة ثلاثيته المبهرة سيقرأه في جلسة متصلة واحدة، وقد تمتد القراءة لجلستين أو ثلاث في أقصى الحالات. الآلوسي حكّاء متدفق تجري الوقائع على لسانه كشلال مياه شبيه بذاك الشلال الذي وضع (فرانك لويد رايت)، المعماري الامريكي، تصميماً مدهشاً له وصار يعرفُ عالمياً (بيت الشلال). أظنُّ أنّ الآلوسي هو المعادل الحكائي لنظيره البَصَري – السينمائي (يوسف شاهين): دفقٌ من الأفكار تتطاير كما الأبخرة من صحن حساء ساخن في ليلة صقيعية؛ لكنها تنطوي على ثراء ملهم في المحتوى والدلالة. قارئ الآلوسي يحتاجُ أن يكون متجاوباً مع هذا الدفق الحكائي غير المتكاسل، وقد يجدُ عنتاً في بداياته الأولى ثم تنتظم القراءة الممتعة.
صحيحٌ أنّ (توبوس) هو بعضُ جوانب السيرة الذاتية الآلوسية ؛ لكنها سيرة تنتمي إلى (العام) العراقي مثلما تنتمي إلى (الخاص) الآلوسي. تلك فرادةٌ يمكن لبعض الأفراد المخصوصين حيازتها، وهي منبعُ ثراء كتاباتهم. أنت عندما تقرأ للآلوسي فكأنك تقرأ عن تفاصيل عميقة في الحياة البغدادية، وهي ليست تفاصيل جامدة مبثوثة في ثنايا نص من نصوص السوسيولوجيا أو التاريخ العراقي؛ بل هي لوحة مشتبكة التفاصيل إبتداء من العلاقات داخل العائلة البغدادية الواحدة صعوداً نحو أعلى هرم صناعة القرار السياسي.
هَيْكَلَ الآلوسي كتابه في فصول متعددة تتبعُ ترتيباً زمنياً خطياً يبدأ من شقاوات الطفولة والمدرسة الأولى، وهي شقاوة تشي بحب الحياة والانفتاح على مباهجها المتاحة وغير المتاحة، ولم تكن مباهج الحياة البغدادية بالقليلة لمن أراد وعرف اغتراف المباهج بأصول صحيحة. كلّ فصل هو في الوصف الدقيق حشدٌ من الأسماء والاماكن والشخصيات والافكار والوقائع التي أفرد لها الآلوسي في نهاية كل فصل تعريفاً وافياً بها لكي لايكون القارئ وسط متاهة عمياء. ستعرّفُنا تلك الفصول، وفي سياق حكائي مكتنف بالمتعة والفتنة والمقدرة، على تفصيلات محددة من الواقع الاجتماعي والتعليمي والسياسي العراقي: سنعرفُ مثلاً أنّ كلية الزراعة العراقية التي أُسّسَتْ عام 1952 إنما كانت في الأساس متعشقة مع نظام كلية الزراعة في جامعة أريزونا الأمريكية، ولن يدّخر الآلوسي جهداً في سرد جوانب من الحياة الداخلية في تلك الكلية الرائدة. هذا مثال واحد فحسب، وكثيرةٌ هي المشهديات في الفصول اللاحقة.
من الفصول المثيرة في الكتاب ذلك الفصل الذي يحكي فيه الآلوسي عن دراسته العمارة في جامعة الشرق الأوسط التقنية في تركيا؛ فبعد أن أكمل الآلوسي سنة في كلية الزراعة في (أبي غريب) إنتقل إلى كلية التجارة؛ لكنّ هذا المسعى لم يوافق رغباته فاعتزم دراسة العمارة، وانتهى القرار إلى مدرسة العمارة في جامعة الشرق الأوسط التقنية التي تأسست حديثاً لتكون متوْأمة مع جامعة بنسلفانيا الأمريكية. إنّ رحلة الآلوسي في المهنة المعمارية - إبتداء من ترتيب المال اللازم للتكفل بمصاريف السنة الأولى من الدراسة، ومن ثمّ ركوب قطار الشرق السريع من بغداد إلى حيث الجامعة،ثمّ التدريب المهني في مكتب للعمارة في مدينة فرانكفورت في ألمانيا الساعية للنهوض سريعاً من مخلفات الحرب العالمية الثانية – هي رحلة ماراثونية مثيرة في كلّ تفاصيلها، ولن يقوى عليها سوى من أوتي جلداً ومصابرة وقدرة على الكفاح مقترنة بتذوّق أطايب الحياة المتاحة.
أتطلعُ بشوق لقراءة الكتاب الثالث في ثلاثية الآلوسي، وهو كتاب (ذروموس: حكاية مهنة).إنّ في ذاكرة الآلوسي – ذلك الطائر البغدادي الذي إنتهى جليسَ كرسي وحيد قبالة المتوسط في قبرص اليونانية – الكثير ممّا سيبهجُ أرواح وعقول وقلوب قرائه وبخاصة من العراقيين الذين لم يعُد بمستطاعهم سوى الإنصات لألحان تلك النوستالجيا العراقية التي ستظلّ تذكّرهم بما إنتهوا إليه من بؤس لايليق بهم، ولم يكن أغلبهم من صُنّاعه.
أكتب أيها الآلوسي، الحكّاء البغدادي الأصيل، وإنّا لحكاياتك لمنتظرون.