د. خالدالسلطاني
معمار وأكاديمي
يميل كثر من المعماريين الى ان تكون نماذج ابداعاتهم المعمارية منطوية على فرادة تصميمية، تسمو بها لتكون بمثابة “ايقونة” معمارية يشار اليها بالبنان! ويبقى ذلك الميل والرغبة بمنزلة الحلم المهني الذي يتطلع نحوه كثر منهم.
لكن ذلك الحلم، لم يكن دوماً موضوعاً سهل المنال، مثلما لم يكن امراً هيناً لجهة تحقيقه. فالخصائص المميزة للمنتج المعماري الذي يتسم بفرادة تصميمية او “ايقونية”، يتطلب بالضرورة جهداً تصميمياً عميقا، مثلما يستلزم كلف مالية عالية لم يكن توفيرها دوما مسألة متاحة او ميسرة. كما ان نوعية “ثيمة” التصميم، تفرض هي الآخرى تأثيراتها ومتطلباتها، وتحدد، بشكل وبآخر، طبيعة المقاربة المعمارية للمشكل التصميمي. بمعنى آخر، ليست جميع التنويعات “التابولوجية” Typology للمواضيع، يتعين اجتراحها بلغة متفردة واستثنائية، تصل حد “الايقونة”! فالنشاط التصميمي الاسكاني، على سبيل المثال، الزاخر بمزاج التقاليد المحافظة والثابتة، ظل، في الغالب الاعم، بعيداً عن محاولات التجديد والتغيير، بحكم تأثير ديمومة واستمرارية هذة الفعالية ووظائفها المحددة. نقول هذا ونستدرك القول، من ان ثمة محاولات جادة، على ندرتها، قام بها بعض المعماريين المجددّين، في اختيار “موضوعة السكن” ذاتها لتكون مجالا عندهم للتغير والحداثة. لنتذكر مسعى المعمار الطليعي لو كوربوزيه (1887 -1965) في ايجاد مفهوم جديد لسكن حداثي تجسد لاحقا في فيلا سافوي (1929 -1931) الشهيرة في بواسي عند ضواحي باريس /فرنسا. ورغم تأثيرات “سافوي” العميقة على مسار الحداثة وتكريس قيمها الايجابية، فان رب العمل وجد فيها “مضيعة” لنقوده، واضطره لاحقا لاقامة الدعوى ضد المعمار، متهما اياه بخذلاته و”تصميم” شئ لم يكن رب العمل يتصوره او يرغب به! وعندنا في العراق، عندما حاول المعمار المجدد (واب الحداثة المعمارية العراقية) “عبد الله احسان كامل” (1919 – 1985)، ان يغير هو الآخر مفهوم “عمارة السكن” البغدادي، مانحا المشهد المعماري العراقي واحدا من اجمل تصاميمه المبكرة وهي “دارة سكنية” تعود الى عام 1953 في المسبح ببغداد (اعتبرها لحظة فارقة ومهمة في مسار الحداثة المعمارية العراقية)؛ كانت ربة البيت تجاهر في رفضها عن ما اتي به المعمار من تجديدات، مجيبة عن تساؤل كثر من معارفها عن كيف هو “بيتهم الجديد”؟ قائلة بلهجة بغدادية محببة.. وملتبسة، تحتمل ازدواجية المعنى: <..عيني! نحن لا نملك بيت...نحن نمتلك.. “طارمة”>! كناية عن شرفة خارجية واسعة ادخلها المعمار، بجرأة نادرة، في صميم الحل التكويني للدارة!
بيد ان ذلك المزاج التصميمي والذائقة الجمالية لمفهوم عمارة السكن، الذي ترسخ عميقا وطويلا في الذاكرة الجمعية، طرأ عليه تغييرا جذريا وشاملاً، بحلول وتسيّد افكار ورؤى “ما بعد الحداثة” في الخطاب وفي المشهد. اذ تتطلعت تلك الافكار وسعت (معمارياً على وجه الخصوص) وراء خلق قطيعة “إبستمولوجية” Epistemology وحتى معنوية وجمالية ايضا فيما يخص المعايير التى كانت “سائدة” فيما مضى. جاعلة من <السكن> المعاصر وقضاياه الحافلة بالتقاليد المحافظة والثابتة، موضوعاً معمارياً قابلا لمقاربته بشكل متفرد ومميز...و”ايقوني” ايضاً! وبالتالي زالت تلك المخاوف والاوهام عن “محافظية” ثيمة السكن التى لازمتها لفترات زمنية طويلة.
اتابع منذ فترة طويلة نتاج مكتب “هيينغ لارسن” المعماري الدانمركي المشهور عالمياً (وقد سبق وان قمت بزيارات عديدة للمكتب وتحدثت مراراً مع مؤسسه ومعماره الاول “هيينغ لارسن”(1925 – 2013) Henning Larsen اثناء إعدادي لكتابي “العمارة بكونها قبولا للآخر” الذي صدر بالانكليزية من منشورات مدرسة العمارة في كوبنهاغن عام 2012، عندما كنت أعمل فيها باحثا علمياً). وارى في نتاجه الغزير نماذج تصميمية جد مهمة ومثيرة ان كانت لجهة لغتها المعمارية ام لناحية مقاربتها التصميمية. وقد صمم مجمع اسكاني في مدينة “فايله” Vejle في شبه جزيرة <جوتلند> (بالدانمركية Jylland )، والتى تبعد حوالي 240 كيلومتر غرب كوبنهاغن، مضيفاً الى تلك المدينة التاسعة من ناحية عدد السكان في الدانمرك، معلماً معماريا بات من مفاخر تلك المدينة التاريخية، (الواقعة على خليج ممتد عميقا في الياسبة يدعى، كما في عدة لغات اسكندينافية، <فيورد> Fjord ).
يطل موقع المجمع السكني الذي دُعّي “بالموجة” Bølgen، على ذلك الخليج المائي، وقد استخدم المعمار ثيمة السكن ذاتها لسبر اغوار مقاربة معمارية عدت رائدة وما بعد حداثية في المشهد المعماري الدانمركي الحافل الآن بتعدد الرؤى والاساليب وتوظيف مقاربات ما بعد الحداثة في الممارسة المحلية. وعن عمارة هذا المشروع المتميز اود الحديث في الاسطر التالية.
شرع المكتب في تصميم مشروع “الموجة” في كانون الاول 2005، اثر اعلان مسابقة معمارية لتصميم مجمع سكني في مدينة “فايلة”. وفاز المكتب وقتها بالجائزة الاولى، وذكرت لجنة التحكيم في قرارها “... من ان المشروع الفائز يقدم رؤية مميزة للموقع الفريد، الذي يفرض على المصمم ان ينجز شيئا جريئاً لجهة خصائص الموقع اللافتة والتحديات التى يفرضها المكان. ومشروع “الموجة” المقدم، هو مجمع سكني اسثنائي مثلما هو معلم معماري بارز”.
تضمن المشروع الاسكاني المنجز من قبل المكتب معالجة المشكل التصميمي بمقاربة تطمح ان تعكس “روح” المكان، وان تكون اضافة استثنائية للبيئة المبنية المحلية. فالمعروف ان البيئة الفضائية المفتوحة المحلية Landscape في “فايلة” تتسم على خصائص مميزة لناحية وجود “تلال” فيها، على عكس غالبية البيئة الطبيعة لعموم الدانمرك المعروف عنها إستواء مسطحها الارضي، وخلو منظرها الطبيعي، في العموم، من ايه ارتفاعات تذكر. من هنا، كان مسوغاً قرار المعمار إستخدام شكل ينوب عن صور “قمم” التلال المجاورة، وفي ذات الوقت يشي باشكال “الموجات” البحرية التى يألفها “فيورد” الخليج الذي يطل عليه المجمع السكني! بالطبع تزامنت مبررات ذلك القرار التصميمي مع رغبة المصمم بان يدنو مشروعه من بلاغة معمارية قادته نحو التفرد الشكلي، والسعى وراء اجتراح منجز تصميمي زاخر بالصور الدلالية. وقد جاء الحل المعماري متضمناً سلسلة من “اقواس” تشكل مساراً متعرجاً Zigzag ومنكسراً يرتفع الى ذروة القوس ثم يهبط ليرتفع مرة اخرى. وبهذ الحركة الدائمة لسيل تلك الامواج (وصل عددها في التصميم الى خمس موجات)؛ استطاع المصمم بمهنية عالية ان يملء فضاءاته التى حصل عليها بتنويعات من الشقق ذات المخططات المختلفة.
عندما انتهت اجراءات التصميم، شرع في الحال الى تنفيذ الفكرة التصميمية واقعيا، وتم انجاز “موجتين” من اصل خمسة، في عام 2009، عندما توقف التنفيذ، وقتها، بسبب تأثيرات ازمة اقتصادية قاسية. وبعد توقف دام ست سنوات عاود المشروع التنفيذ سنة 2015 واكمل بناء الموجات الثلاث المتبقية، وافتتح المشروع كاملا بموجاته الخمس نهاية عام 2018. علما ان المشروع يتضمن تأمين 100 شقة مختلفة المساحات، موزعة على طوابق المجمع الذي وصل ارتفاع كل موجة فيه الى تسعة طوابق.
لا شك بان تنفيذ المجمع كاملاً، وحضور عمارته اللافتة وفورمه المتميز، كان في الحقيقة حدثا مهنياً وثقافيا مؤثرين، وهو بنيله العديد من الجوائز المهنية، امسى يمثل للمدينة التى يتواجد فيها، معلما معماريا مدهشا، وقد حظي باعجاب ومحبة الكثيرين من سكنة “فايلة” وزوارها. بالنسبة اليّ مثل المجمع تجربة معمارية رائدة من قبل المكتب الاستشاري، الذي كتبت عنه كثيرا وازعم باني كنت من معجبي نتاجه التصميمي الرصين. كل هذا ولد رغبة شديدة لديّ لمشاهدة المجمع واقعيا ورؤيته في موقعه المميز. وفعلا تعنيت السفر نحو “فايلة”، فقط لمشاهدة هذا الاثر المعماري الاستثنائي والاستمتاع برؤيته وهو في موقعه ومجاوراته.. وتصويره ايضاً. واخترت يوما مشمسا، لاني ادرك بان حضور العمارة (اية عمارة!) في المشهد المشمس يضفي عليها القاً وجمالا زائدين، بالضد من الطقس الملبد بالغيوم والسماء الرمادية.
عندما وقفت وَجْهاً لِوَجْه امام مجمع “الموجة” في ذلك الصباح المشمس، ادركت معنى “القطيعة” المعرفية، التى لطالما كان يرددها معمار ما بعد الحداثة المعروف ومنظرها اللامع “بيتر ايزنمان” (1932) Peter Eisenman كسمة اساسية وجوهرية من سمات تلك المفاهيم التى قُدّر لها ان تُغّير كل ما كنا نعتبره مبادئ صحيحة وقيماً مستقيمة. فالمشهد المرئي ينزع بجرأة لافتة نحو الايغال في تشكيل صيغة تعبيرية، يصبو اميجها التشكيلي الى طمس وتبديد الصورة النمطية لمفهوم شكل المبنى السكني والسعى وراء حذفه من الذاكرة الجمعية! فمسار شريط السطح الزكزاكي، الظاهر امامي، وحركته المستمرة التدريجية التى تبدأ من منسوب الطابق الارضي باتجاه الاعلى لتصل الى ذروتها، ثم ما تلبث تلك الحركة ان تهبط فجأة خالقة عقد خرساني ضخم، ليرتفع مسارها مرة اخرى بذلك التدرج الذي بات مألوفاً نحو ذروة اخرى لعقد آخر، ومن ثم ليهبط مرة آخرى..وهكذا دواليك، ليصل عددها الى خمس قمم؛ وليصار الى “تخليق” نشاط منساب، يشي بتردد حركة الامواج الزاخرة بها مياه “الفورد” الخليجي القريب، او تدلل بحضور صور لذرى التلال المجاورة. بالطبع، يبقى المشهد المبني، ينم عن جسارة تصميمية، بيد ان تلك الجسارة، وإن عُدت لافتة، فان معمارها يعي جيدا من ان مقترحه المميز يمكن ان ينفذ على قدر كبير من السهولة، في ظل الامكانات التقنية غير المسبوقة لخصائص المواد الانشائية المعاصرة، والتقدم المذهل الحاصل اليوم في نظم التراكيب الانشائية المتنوعة.
تظهر حالة إشغال المجمع السريعة والحركة النشطة في مبيعات الشقق فيه، عن أهتمام كبير من الناس بهذا المجمع الاستثنائي، وابداء الرغبة والتوق للسكن في تلك الشقق الفريدة. بل واستنجدت من حديث الناس الذين التقيتهم بالقرب من المجمع ومن بعض ساكنيه، بانهم فخورين بكونهم “يمتلكون” مثل هذة العمارة الاستثنائية في بلدتهم، التى امست بمثابة “ايقونة” معمارية اثرت مشهد البيئة المبنية لـ “فايلة”. وهم، الآن، لا يمكنهم تصور مدينتهم بدون هذا المعلم الفريد، المتكون من خمس موجات خرسانية بيضاء، تنهض بشموخ عند نهاية “الفورد” الخليجي، مؤشرة عن نقطة فاصلة ما بين مياه الخليج الممتدة امامها وبين اليابسة التى تبدأ خلفها.
في تعليق لاحد مصممي مجمع “الموجة”، يشير بان مسوغات الحل التكويني – الفضائي للمجمع في “فايلة” كانت من ضمنها ارسال ايماءة تحية الى المعمار الدانمركي الشهير “يورن اوتزن” (1918 - 2008) Jørn Utzon ولعمله المعروف “سدني اوبرا هاوس” (1957 - 1973) في أستراليا. فالسطح الخرساني الابيض ونهوضه نحو الاعلى وهبوطة من الجهة الآخرى في تصميم احدى مفردات ”الموجة” في ”فايلة”، توحي الى العمل المبهر في شكل وتغليف ”موجات” الاوبرا الشهيرة في سدني. انه نوع من تذكير بقيمة مجترح المعمار الدانمركي الرائد والتعلم منه، مثلما هو ضرب عن تعبير لوفاء ”معماري” ايضاً! ومع هذا، فاني اجد في عمل معمار ”الموجة” محاولة لاجراء فعالية ”تناصية” Intertextuality مع احد اعمال معمارتنا الفذة “زهاء حديد” (1950 – 2016)، وهو “مركز حيدر علييف” (2006 -2013) في باكو باذربيجان، حيث حركة ارتفاع وهبوط السطح الابيض المشكل لعقد خرساني ضخم والذي يغطي الفضاءات الاساسية للمركز في باكو، اراه الاقرب الى صورة ما تم انجازه في “فايلة” منه من “اوبرا سدني هاوس”! وتبقى “الازمنة” المتقاربة لتواريخ تصميم كلا المبنينّ (مجمع فايلة، ومركز حيدر علييف) هي <الكلمة الفصل> في تبني سردية كلا الطرحين! لكن الاهم في كل ذلك، يظل مشروع “موجة فايلة” يثير الاهتمام والاعجاب الشديدين من قبل المهنيين والناس العاديين. انه من دون شك نجاح معماري للمصممين واجتهاد مهني اضاف الكثير لبيئة المدينة التى يتواجد فيها مثلما زاد من تنوع انجازات العمارة المعاصرة!
جميع التعليقات 1
شريف يونس
د خالد السلطاني هو ايقونة العطاء والفائدة اللامتناهية لطلابه وقراءه . حفظك الله .. كتاباتك امثولة وموقد للذهن دمت لنا