حيدر المحسن
- -1
سؤال: هل القُربى الفكرية والروحية بين الاثنين، الرسام إدفارد مونك صاحب لوحة الصرخة والقاصّ محمد خضير، هي التي غرست لديهما بذرة التجديد ليبدعا رسما ونصّا يخالفان الواقع بكلّ ما فيه، معتمدَين بالدرجة الرئيسية على قوة التعبير الرمزي لتصوير ما يمكن تسميته “ضد الواقع”؟ وإذا كان المصوّر بعيدا عنا في الزمان والمكان، فإن القاصّ قريب، ويمكننا الخوض في اللجّة واستخراج ما ينفعنا في دراسة هذا الأثر الفريد في تاريخ الأدب.
إن مصدر ثقافة الكاتب في الفن التشكيلي هي بالدرجة الرئيسية الكتب والمجلات المترجمة، فلم تكن صالونات الرسم والنحت في مدينة البصرة، على حدّ علمي، معروفة في ذلك الزمان، وتلقي هذه الحقيقة الضوء على ما للتجربة الفنيّة من أثر بالغ في النفس العبقريّة، مجرّد صور مطبوعة على الورق تنتقل عبرها حياة وأفكار وصراع مع الطبيعة ومع اللون تدور أحداثه على بعد آلاف الكيلومترات في اتجاه الشرق والغرب...
إن الجناحين اللذين يسقط بواسطتهما طائر الفن هما السذاجة والتعقيد، وليس من الإنصاف وصف ما يجري في “الصرخة” بأنه نوع من المبالغة الفنية، أو أن النص مليء بعُقدات الفن وتعمّلاته. إنها قصة مكتملة إذا كان هناك قصة مكتملة من ناحية البناء الفني، وغرض الكاتب الأهمّ هو عمل شيء من التقابل البسيط بين نهايتها ولوحة إدفارد مونك، وهذه تمثّل صرخة إنسان يشلّ عينيه الرعب، ويتردّد صداها في مساحة البحر الذي يحتلّ ثلثي اللوحة، بينما يشهد الواقعة شخص آخر يرتدي قبّعة، يقف على الشّاطئ، ويبدو عليه عدم الاكتراث.
القصة واضحة، واستعمل فيها الكاتب تقنيات جديدة، وهي مفهومة ضمن عالمها الخاص، ولا يمكن إعمال أدوات النقد القصصي السابقة على الفن الجديد فيها. نقرأ “الصرخة” ونهبط فيها، نغوص في سرّها، ونحاول البحث عن حلّ لإشكالات الكاتب مع ما يجري في العالم من ظلم وفوضى وزيف.
سؤال ثان: ما هو الواقع؟ هل هو ما تذيعه الصحف ونشرات الأخبار وما يتداوله العامة والخاصّة من أحاديث وأفعال؟ هل هو الطقس وحركة الرّياح والغيوم؟ هل هو انتقال رأس المال في المدينة بين الخزائن بعواصف أو حركات مدّ وجزر تنفض البيوت والمباني والمصانع فيها دنانيرها كلّ يوم؟ هنالك فرق جوهريّ بين الأحداث كما هي، وبين ما يدعوه الأستاذ محمود عبد الوهاب بالواقع النّصّي، أي ما يثبت على الورقة في النصّ القصصي، ولشرح الفرق بين الاثنين أستعين بمشهد مرّ بي، وكنت أحلّ سائحا في بيروت، أم الدنيا الجميلة والحديثة والغنيّة...
استيقظت في الرابعة صباحا، وكنت أسير وحدي في شارع الحمرا عندما استوقفني صوت مجرى المياه المعتمة في الأسفل، حيث تمتد عميقا أنابيب صرف السيول والأمطار... كانت سماء الليل بعيدة، وكلّ شيء قربي موجود لكنه غير مرئي بسبب الظلام. هناك حوالي مليونا نفس تعيش معي في المدينة، وهنالك أرواح الموتى الذين عاشوا منذ بدء الخليقة حتى هذه الساعة. أحلام وذكريات وخيالات ورؤى لا تُحصى من الماضي والحاضر ذابت كلها في مجرى المياه الذي كان يأتيني صوته فحسب، واختفت صورته تحت طبقات عدة من الإسفلت والحصى والتراب، وتذكّرت عندها قصيدة “النهر تحت الأرض” للشاعر محمود البريكان، وحسبتُ أني أقرؤها أول مرة: “النهر الغامض تحت الأرض يجري بهدوء يجري في الظلمة لا صوت له لا شكل له يجري تحت الصحراء المحترقة تحت حقول وبساتين وتحت قرى ومدن يجري يجري نحو مصبات مجهولة عبر كهوف وبحيرات وصهاريج...”.
(يتبع...)