طالب عبد العزيز
ستأتي إليكَ، وستتحققُ منها جيداً، اللمسةُ الاخيرةُ التي تديرُ بها مِقبضَ البابِ، وسواءٌ عليكَ، أكنتَ داخلاً أو خارجاً، فهي تتأبَّى إلا أنْ تكون الاخيرة، لا محال. هل أطفأتَ المصباحَ، الذي دأبتَ على إيقاده وإطفائه عشرات المرات؟ وهل تسللتَ بعينك الى شرشف السرير الذي لم يسوَّ كما يجبُ؟ هل أخترتَ الحذاءَ الذي انتعلتَ لرحلتك تلك؟ وهل استسغت ماءَ القدح الاخيرأم تجرَّعته، غالباً ما تجعله زوجتُك عند رأسك، وهل امتلأتْ سلةُ المهملاتِ بما أهملتَ فعلاً؟ أم بما زهدتَ وكرهت؟
قلمك بحبره الاسود، وهو يجفّ منذ أسابيعَ ثلاثة، لم تلجئك الحاجة اليه، تخاطبُ من؟ وتجيبُ من؟ البرتقالاتِ الثلاث وهنَّ يبدلنَّ ألوانهنَّ، خلف قناني الماء وباقة البقدونس، التي بخوصتها ما تزال؟ الهاتفَ ذا المزلاج الرخو، وهو ينطبق على إحدى ضلفتيه، وينغلق الى الابد، بناسه الذين هناك، وبالزوجة المرتابة والابناء، قفْ عند هذه، ولا تملأ جرةّ اليأس بالامل، فكل الذين تسوّرا الحديقةَ أدمى الزجاجُ أقدامَهم، أكلوا الفاكهة، ونفخوا أكفَّهم عن الغبار.
ضع الاغنية الراقصة على مكبّر الصوت، واغلق الباب باحكام، ما استطعت الى ذلك قطناً ولفافات، لئلا يتسلل اِخوتك أو أبناؤك، ممن تخشى ولا تخشى، وأرقصْ رقصتك التي أجلتها كثيراً، أترك قصيدتك تنسابُ كما شئت لها، ولتسقط كلُّ الشمعدانات بنورها على كتفك، التي تعطلت البارحة، خذْ ما تفتق من براعم نفورك وسرورك معاً، واسقها من نبيذ صمتك الطويل، ما تعتق منه وما انفجرت الدنان به، وليكن نهارك هو الاطول، وليلك السديم الذي لا ينقضي بالنجوم، هذا الجسد يبحث عن لحظته، التي تعطلت طويلاً خلف الابواب والستائر.
لا تغضبْ، إنْ تخلّفت القصيدةُ التي أردتَ كتابتها، فنامت حبيسة الظنِّ والنَّدمِ، والسرورِ ربما، ودع الجسد يبحث في رحلة المباهج عن طائره، ففي غزوات المغول على سيبيريا، وبين ركام الثلوج، وفي الوهاد والاحراش كان الجنودُ يركبون أفراسهم غازين، فيخلّفون صغارها وراءَهم، ترعى ما تجدُ في البريّة، وما لا تجدُ، لكنهم، وحال انتهاءِ الغزوة، يُرخون أعنتها، على طريق عودتهم، فتقودهم الى حيث تركت صغارَها، ستكون الطريق الى الخيام آمنةً على ظهور الجياد. هل أدلك على ما غضبت منه، وندمت عليه، فلا أتخسف في اللفظ، ولا تعوزني الحجة، ويتخطاني الدليل؟ يقول إمام المسجد: الجسد خطيئة، ويقول معلمُ الفيزياء: الجسدُ آلةٌ، وتقول يافطةُ الاعلان: الجسدُ مشروعٌ تجاريٌّ، فيما يقول الجسد: أنا القصيدة التي لم تكتبْ.
علينا ان نكون أحراراً ليس أمام المرآة حسب، وإلا سنظلُّ نحدّثُ الآخرين عن الجبال. هذا الذي قرب الموقد هو صديقي، دخلتُ معهُ لكنني خرجتُ وحدي. عندي فائض من الوقت، لكنني، لن التقيك في الغد. فأنا، كما يقول بورخيس: “تحيرني حقيقة وجودي، وتموضعي في جسدٍ انساني. لا، لن أقدم على الانتحار، لكنني سأشعرُ بعدمية الوجود حولي، أنظرُ للكلمات بعين الريبة” فلا تحدثني عن الحزن، لقد حملتُ جثة أخي الثقيلة وحدي، ولكي أكون واضحاً معك، عليَّ القول بأنَّ الغروب آفةُ الليل لا الثلج، وهذا البلبل ينتفع بما في السعفة من نهنهة الرِّيح، سأقول أيضاً: الحرية كمان لا يصغي لأحد، وبالرقص تنطفئ حمّى الأجساد، والقليل من النبيذ يعني الكثير من الحياء، أطعمك الاملَ فضلة زاد اليأس، عندي قدم على حافة القبر، وأخرى خلف اسطوانة على الرف، أنا قنفذ الليلةَ هذه، فاملأ سمائي بالنجوم.