TOP

جريدة المدى > عام > صرخة مدوية لامرأة طالبت بالتحرر

صرخة مدوية لامرأة طالبت بالتحرر

نشر في: 18 نوفمبر, 2012: 08:00 م

في رسائلها إلى ابنتها، كشفت سيدو والدة الكاتبة الفرنسية سيدوني غابرييل كوليت المعروفة بكوليت عن كونها أم محبة لابنتها ومتسلطة تعجبها أعمال ابنتها الأدبية لكنها تعترض على سلوكياتها الاجتماعية.. ولم تكن سيدو تدعو ابنتها غابرييل او كوليت بل كانت تستخدم عشرات الأسماء الصغيرة لتدليلها وكانت تراسلها تقريبا بشكل يومي طوال فترة ابتعادها عنها ...

والغريب أن هذه المراسلات اختفت ومن المحتمل أن يكون شقيق كوليت الأكبر هو الذي قام بإحراقها ليخفي أسرار شقيقته ..كتبت تلك الرسائل مابين عامي 1903 و1912 وهو تاريخ وفاتها ..وأخيرا تم اكتشافها عبر المطبوع الجديد للكاتب جيرار بونال الذي احترم محتوى الرسائل وأعاد بناء الوقائع بأسلوبه الخبير ونظرته الحاذقة ...

كانت كوليت قد غادرت والدتها لتسكن مع رفيقة لها كما كشفت عن ذلك رسائلها لها ثم مارست مهنة الرقص في النادي الليلي في (ميوزك هول) والتي خاطبتها والدتها بشأنها في إحدى رسائلها قائلة لها بعد أن صدمها الخبر : " كم هو مؤسف ان يكون لديك موهبة كاتبة رائعة وتذهبين للرقص على المسرح ...كيف تجرؤين على الظهور أمام الناس عارية تقريبا؟" ..

ولم تكتف كوليت بممارسة الرقص بل تعاملت مع زوجها ويلي الذي تزوجته في سن مبكرة بإهمال وقسوة بعد أن عاملها بعقوق رغم استفادته الكبيرة من اسمها ذلك أنها نشرت سلسلة من قصص بطلتها تدعى (كلودين ) باسم زوجها وحققت له شهرة واسعة بعد أن كان كاتبا مغمورا وأغرته موهبة زوجته الشابة التي لم تكن قد تخطت العشرين من عمرها وسبب ذلك هو رغبتها في إطلاق صرخة مدوية لتحرر المرأة واختارت التعبير عن ذلك عبر قصص الفتاة المتحررة كلودين التي تحولت إلى ظاهرة وموضة تقلدها الفتيات الشابات في طريقة ارتداء البنطلون وتدخين السيجار ورغم ذلك أشارت أصابع الانتقاد إلى كوليت باعتبارها تدعو إلى التخريب وتخطي حدود الممكن خاصة حين قررت انتزاع حريتها من زوجها ومن كل الرجال الذين عاشت معهم مغامرات عاطفية صاخبة.

كانت كوليت قد غادرت محيطها الريفي وانطلقت إلى باريس لتعيش رياح التغيير وتعبر بجرأة عن تمردها من خلال أسلوب حياتها وملابسها ثم تنقلها بين الصالونات الأدبية والحفلات الموسيقية والمسارح التي قادها إليها زوجها ويلي في بادئ المر لدرجة أنها قالت قبل وفاتها إن أكثر شخصين تركا تأثيرا في حياتها هما زوجها ويلي ووالدتها سيدو التي خصتها برواية تحمل اسمها ...

كان كوليت تباعد كثيرا في زياراتها لوالدتها وترسل لها عوضا من ذلك الهدايا من فواكه وحلويات وروايات ونسخ من الصحف ومخطوطات أعمالها الأدبية قبل نشرها اضافة الى مبالغ من المال ..من جهتها ، لم تكن سيدو تخفي إعجابها بعمل ابنتها ككاتبة فهي تكشف عن حرية في التفكير يندر وجودها بين نساء عصرها ..وحين كتبت كوليت رواية عنها، وصفت عشقها للحيوانات وولعها باستقبال الضيوف والأقارب والجيران وموائد الطعام المعدة على الدوام لاستقبالهم لأن أمها سيدو كانت مفعمة بالإنسانية الحقيقية لذا استحقت أن تخلدها ابنتها عبر اثر أدبي جميل.

ولدت الكاتبة الفرنسية سيدوني غابرييل كوليت في عام 1873، بويزيه في إقليم يون المتاخم لإقليم بورغونيا حيث أمضت العشرين سنة الأولى من حياتها حتى زواجها، وتحدثت كوليت عن هذه المنطقة العزيزة على قلبها في كتابها الأول "كلودين في المدرسة" كما أفردت لها بابا كاملا عنوانه "بورغونيا مسكينتي" في كتابها الأخير "في بلد معروف" وأظهرت كوليت ميلا كبيرا إلى الاستقلالية وحب الاستكشاف وكان لظروف حياتها اثر كبير في أدبها مثلما كان لطلاقها من زوجها ويلي المعروف في مجالي الأدب والمسرح.

قبل عام، صدر كتاب جديد عن كوليت بعنوان (الحب أو الهروب) حاولت فيه المؤلفة دلفين دي مالرب أن تخترق جلد الكاتبة الفرنسية وتغوص في أعماقها بعد أن وقعت في ابن زوجها مما جعلها تصاب بحالة نفسية جعلتها تتجه إلى طبيبها النفساني لتخرج من هذا المأزق، ويمكن للقارئ أن يتعرف على حياة كوليت من خلال أعمالها  ففي "الساذجة المتحررة" تسرد قصة شابة تتزوج باكراً ولا تحب زوجها. تنطلق في مغامراتها بحثاً عن الحب والسعادة وسرعان ما تقع في غرام... زوجها. وفي قصة بسيطة تحكي كل عالم المرأة السيكولوجي المعقّد والصعب.في "القمح في مرحلة العشب" تحكي قصة مراهقين مغرمين ببعضهما منذ الطفولة، لكن سرعان ما يتجه الشاب ناحية امرأة ناضجة يتعلق بها وبعد أن تتخلى عنه يقرر الانتحار. لكن الفتاة المراهقة المغرمة به تنجده في اللحظة الأخيرة. وعلى عكس ما قدمته في "القمح في مرحلة العشب" وصفت في "شيري" علاقة امرأة ناضجة بشاب يافع تصل إلى حد العشق الكبير، وهنا يضع الشاب حداً لحياته حين يكتشف في الجزء الثاني "نهاية شيري" أن هذه المرأة كانت تمثل كل الحب له وهو قد ابتعد عنها إرضاء للمجتمع.
إذن، ثمة علاقات خفية ربطت كل كتبها ببعضها وكأن القارئ أمام مراحل متلاحقة من حياة شخصياتها وإن تغيرت الأسماء أو الظروف هنا وهناك. والغريب انه في مرحلة معينة من حياتها، استخدمت الحيوانات لتصبح شخصياتها المجردة من كل انتماءاتها وظروفها، ووضعت فيها كل اختباراتها الحسية، الهررة والأحصنة والضفدعة والحرباء والسمكة والسنجاب كلها دخلت عالمها وأضفت عليها لمسات سحرية وجعلتها تنطق بأحاسيس صعُب عليها تحديدها في الإنسان. ومع شخصياتها هذه قطعت كل الحدود والحواجز، وبقيت الهرة في المرتبة الأولى لديها حيث أنها اعتبرتها رمزاً لها ولعالمها الروائي.أصبحت كوليت رمزاً للمرأة المعطاء الغزيرة الإنتاج التي لونت حياتها بألف لون ونشرت من حولها مواهبها العديدة وبقيت على سحرها وغرابتها حتى آخر رمق من حياتها، وصورتها في إطار المرأة العجوز (بلغت 81 عاماً عند وفاتها في عام 1954) المبتسمة والسعيدة في شيخوختها والمعطاء إلى آخر حدود رسمت صورة جديدة ومفهوم جديد للمرأة التي كانت تعتبر منتهية في معظم أدوارها بمجرد دخولها مرحلة العمر الثالث...

صدر كتاب ( رسائل إلى كوليت 1903 -1912) التي أرسلت لها من والدتها سيدو في منشورات جيرار بونال وفي (560) صفحة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هندل وثيودورا

تساؤلات عن موت الفلسفة والفلاسفة

العُثَّةُ… رواية جديدة للكاتب يوسف أبو الفوز

رحيل المخرج العراقي قيس الزبيدي أحد أبرز روّاد السينما الوثائقية العربية

علم السرد والوسيط الرقمي

مقالات ذات صلة

"عَلِي لَبِيبْ جَبرْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/12/5806-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيراً> "عَلِي لَبِيبْ جَبرْ"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميتثير اشكالية "الآخر" (.."الآخر" المختلف) اهتماماً كبيراً في المنتج الثقافي الراهن. وتتيح المقاربات الحداثية ومذاهب التوجهات النظرية الحالية إمكانات معرفية واسعة لجهة فهم موضوعي أعمق لهذة الاشكالية الثقافية وتبيان اثرها في...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram