كيف يكتب المرء رواية مثل "الأحمر والأسود"، ومثل "آنا كارانينا"، وفي إطار عالمنا مثل ثلاثية نجيب محفوظ؟ عندما طرحت على نفسي هذا السؤال، لم تكن الثلاثية قد كتبت بعد. كنت أعلم أن هذا الطموح كبير جداً. لكن الحلم في كتابة عمل أدبي من مستوى "المقامر" لدوستويفسكي، و"الحب الأول" لتورغنيف، و"قصة رجل مجهول" لتشيخوف، و"رسالة من امرأة مجهولة" لستيفان زفايغ... يمنحك سعادة لذيذة، لكن لن يجيب على سؤالك التعجيزي.
منذ بداية سنوات مراهقتي وقعت في غرام الرواية (آه، وحب فتاة من طرف واحد). وكنت أدرس، بطبيعة الحال. درست في جامعة بيروت الأميركية، ثم في بيركلي – كاليفورنيا. الدراسة كانت تمنحني لذة هائلة: الهندسة التحليلية وتحويل المعادلات إلى منحنيات هندسية، وبالعكس. ميكانيك الكم وتحديات فيرنر هايزنبرغ ونيلز بور للفيزياء الكلاسيكية، وحتى دروس الدكتور أنيس فريحة الجانبية مع استطراداته حول جذور المفردات... هذه وغيرها كانت تغذي مداركنا المتعطشة للمعرفة. لكنني لم أجد لذتي الحقيقية في هذه الأشياء. لذتي الحقيقية كنت أجدها في الرواية والموسيقى. في عالم الموسيقى كنت أشاهد كل الأوبرات تقريباً، وأستمع الى معظم السيمفونيات والسوناتات والكونشرتات، إلخ. كانت هذه أفيوني الذي ينسيني هموم الواقع. (نحن أبناء العالم الثالث لدينا هموم هائلة ومستعصية على الحل). وكنت أهرب من عالمنا إلى عالم الرواية.
لكن ماذا كنت أريد أن أكون؟ مهندساً، أو طبيباً، أو أستاذاً جامعياً؟ هذه كلها لا تداوي جرحاً. أنا أحب الرواية، فهل أستطيع أن أصبح روائياً؟ في جامعة بيركلي كنت أحدث أستاذي (الهندي الزائر) البروفسور كاليانبور عن رغبتي في الكتابة. فأهداني الترجمة الإنكليزية لرواية "الدون الهاديء" لميخائيل شولوخوف. هذه الرواية من وزن الروايات العملاقة، مثل "الحرب والسلم" لتولستوي، و"الأخوة كارامازوف" لدوستويفسكي، و"جان كريستوف" لرومان رولان، إلخ. أنا وجدت متعة فائقة عند قراءتها. وصدقوني أن متعتي في الوقوف على أسماء النباتات والأشجار والأعشاب والزهور والطيور، التي لا حصر لها في هذه الرواية، لم تقل عن اهتمامي بمتابعة مصائر أبطال الرواية الذين يشكلون سجلاً بانورامياً. إن معرفة شولوخوف بعالم الغابات الروسية، وحدها، تجعلنا ننحني أمام ثقافته الهائلة بالعالم الذي تغطيه هذه الرواية العملاقة.
مع ذلك، أنا لست من المغرمين جداً بالروايات العملاقة. أنا أحب الروايات الأخرى، الأصغر حجماً، والأصغر بكثير، أي الروايات القصيرة. إن أبطال روايات "الحرب والسلم"، و"الأخوة كارامازوف"، و"جان كريستوف"، و"الدون الهاديء"، و"أسرة تيبو"، و"الجبل السحري"، و"بودنبروك"، و"البحث عن الزمن المفقود"، إلخ، لم يهزوني مثل أبطال وبطلات "الأحمر والأسود"، و"آنا كارانينا"، و"كبرياء وهوى". سأتجاوز الأعمال الروائية التي ظهرت في القرن العشرين، بما فيها من أعمال متألقة، لأنني لا أريد أن أغرق في عالمها، ولا أريد أن أستفيض في الحديث عن علاقتي بالرواية كقارئ، بل أود أن أعود الى الحديث عن علاقتي بالرواية ككاتب.
أنا لم أولد روائياً. الروائيون المعروفون ولدوا روائيين، مثل دوستويفسكي وتولستوي وتشارلس ديكنز وبلزاك. لكن هناك روائيين آخرين كانت كتابة الرواية عندهم أشبه بلعبة. لماذا أنا معجب بستندال حتى أكثر من دوستويفسكي ومن روائيين آخرين ليسوا من قصار القامة؟ لأن ستندال خلق بطلة روائية لم يخلق في مستواها في كل الأدب العالمي، ربما باستثناء آنا كارانينا. أعني بها شخصية ماتيلد المذهلة. أنا لم أكف عن الإعراب عن إعجابي الفائق بهذه الشخصية الروائية في مناسبة وغير مناسبة. ماتيلد دي لا مولى شخصية روائية هائلة في مؤهلاتها. ولا بد من أن ستندال كان واقعاً تحت سحر امرأة معينة حين خلق شخصيتها. فهل كانت ثمة امرأة في المجتمع الباريسي (في حدود 1830) تأتي في مصافها؟ لا أظن، لأن ماتيلد شخصية روائية أكثر منها حقيقية. لكنها شخصية روائية مذهلة أيضاً في واقعيتها. وأنا وقعت في غرامها هي وآنا كارانينا. كلا، لقد وقعت تحت سحرهما. وأنا أتحدث هنا كقارئ وككاتب في وقت معاً، بل ككاتب، لأنني أريد أن أنتقل إلى غرضي من كتابة هذه الكلمة.
تعلمون أنني كاتب! وقد لا تعلمون أنني جربت كتابة الرواية في السنوات الأخيرة. كتبت عدداً من الروايات، لا أرى موجباً لذكرها، لأنني أعتز بواحدة أو اثنتين من بينها فقط (الثانية ستصدر قريباً تحت عنوان "تمارا"). المرأة بدأت تكون شاغلي منذ زمن (من هنا وقوعي تحت سحر ماتيلد وآنا كارانينا). وكنت أريد أن أكتب عن امرأة عربية من طراز مميز. طبعاً، أنا لا يمكن أن أفكر في امرأة من طراز ماتيلد، لغير سبب، ولا في امرأة مثل آنا كارانينا. أو لم لا! "فتاة من طراز خاص"، روايتي التي أعتز بها، متألقة جداً في جمالها وفي موهبتها في الفيزياء، الى جانب تحررها. بهذه الواسطة، تألقها في الفيزياء، استطعت أن أجعل منها فتاة من طراز خاص. لكن تحررها، علماً بأنها من أم وأب عربيين، أوقعها في ورطة، مع أنها تعيش في الغرب. استجابتها إلى حب زميل وصديق لها ولشريك حياتها خلق عندها صراعاً نفسياً دفعها إلى محاولة الانتحار مرتين. والرواية تتحدث بإطناب عن حبها الآخر، هل هو سقوط أم مجرد حب آخر؟ وتنتهي الرواية بتوصل البطلة الى أن الحب الآخر ليس سقوطاً. وهذه مكافأة لتحررها، أسوة مع بنات جنسها في العالم المتحضر.
لكن هذه البطلة الروائية لم تحقق مرادي كاملاً في ما أريد أن أكتبه عن امرأة نموذجية جداً في تحررها. موضوع المرأة لا يزال يشغل بالي. فكرت في أبعاد مقولة أناتول فرانس في روايته "تاييس": "الجمال هو أعظم قوة على وجه الأرض". أخذت هذه المقولة في الاعتبار عندما بدأت بكتابة عمل قصصي طويل (أصبح رواية بعد الاستطالات)، وأسميت هذه الرواية "تمارا". كنت أريد أن أجعل من جمال تمارا الخارق قوة ذات سلطان هائل. لكنني وجدتها، دون أن أعي، كائناً أقل شأناً من الرجل. فالرجل بهرها بعقله (هذا مع أول محب) وبهالته كصورة المسيح (مع المحب الثاني). فتقزمت تمارا أمام الرجل، برغم قوة جمالها. وأسقط في يدي، لأن هذا المآل جاء على خلاف ما أردته لتمارا، النموذج الذي أريده للمرأة المتحررة. ولعل من بين أسباب فشلي في تحقيق ما كنت أريده من بأس للمرأة في رواية "تمارا" هو أنني كتبتها على لسان البطل.
فاتخذت قراراً بكتابة الرواية من جديد، هذه المرة على لسان البطلة تمارا. فكتبت نصاً جاء على مرامي وعلى مرام تمارا. وأحسب أنه حقق حلمي في كتابة عمل روائي متألق. العنوان المحتمل الذي سأختاره للرواية هو "الرجال". وأنا أفكر في عنوان آخر أيضاً "اعترافات"، أو ربما "إنهم كائنات أخرى".
ستكون تمارا هنا أقوى من كل الرجال الذين تعايشهم على الإطلاق، حتى رجال الليل الذين عاشرتهم بعد أن اتخذت قراراً في ممارسة البغاء فترة من الزمن. تمارا هنا شخصية ساحرة وجبارة في قوة إرادتها التي تفرضها على الجميع. وأنا أحببت هذا الاسم، ولشد ما يسعدني أن يضاف الى أسماء البطلات الروائيات المتألقات. مرة قلت لسيدة بادية الجمال: "قولي لي ما هو رأيك في جمالك هذا؟" فقالت: "أنا لست جميلة، أنا جذابة".
- "لكن ما الفرق بين الجميلة والجذابة؟"
- "الجميلة هي المرأة الكاملة الأوصاف في فيزيونوميتها، أما المرأة الجذابة فهي التي لا ترفع عينك عنها حين يقع بصرك عليها".
تمارا ساحرة، لأنها جميلة وجذابة.
سأنتقل الآن إلى نقطة حساسة جداً، لكنها تدخل في صلب الموضوع، أعني بها الجمال والجنوح، أو الجمال والمال، أو الجمال والبغاء. هناك مثل عراقي ذو مغزى في هذا الإطار، يقال عن المرأة الفاتنة بإفراط، إنها "تفك مصلوب"، أي إنها ترفع حبل المشنقة عن محكوم عليه بالإعدام. وهذا يعني أن الجمال هو أعظم قوة على وجه الأرض، ومرة أخرى يذكرنا هذا بمقولة سارتر من أن الجميلات هن بين أن يكن بورجوازيات أو بنات هوى!
نشأت تمارا في بيت مرفه. أبوها كان جنرالاً يحمل أعلى رتبة في الجيش العراقي، وأمها أميركية، أورثت عند ابنتها هاجساً شديداً بالنظافة. أفهمتها أن أيدي كل العراقيين، وربما بقية العرب، ملوثة لأنهم يستعملون الماء بدل الورق في التواليت. فصارت تمارا لا تأكل ولا تشرب شيئاً خارج بيتها. وذاع صيت هوسها بالنظافة في النوادي التي تذهب إليها في صحبة أبيها. وسُمعتها هذه لفتت اهتمام شاب مليونير يمت الى عائلة عريقة. فتقدم لخطبتها، وأقسرها أبوها على الموافقة بحكم العلاقات العائلية. لكن تمارا نمرة رغم أن الزوج ينتمي الى مجتمع ذكوري. فقد طوعت زوجها على احترامها واحترام رغباتها. لكنه تكشف عن مقامر ومفرط في شرب الخمر. ولم تدم العلاقة بينهما طويلاً.
وفي زيارة الى بريطانيا تعرفت الى مثقف عراقي مغترب أذهلها بمؤهلاته الثقافية وبسحر شخصيته، مع أنه ذو دخل متواضع جداً، ومتزوج (كانت زوجته وابناه في العراق). نشأت بينهما علاقة حب بأمل أن يقترنا بعد أن ينفصل هيثم عن زوجته. هذا هو الرجل رقم (2) في حياتها. لكنه يملأها بعلمه الغزير وقوة شخصيته الساحرة، ويذهلها بأحاديثه عن نساء تعرف اليهن في مسيرة حياته. ثم تواجهه بإصرار عن موقفه من الانفصال عن زوجته، فيتلجلج لأنه لا يحب الكذب ولا يريد الإساءة الى زوجته. فتتركه وبها لوعة إليه. وفي مرقص تتعرف إلى دبلوماسي بريطاني، ترتاح الى جنتلمانيته، وتجرب الحياة معه. فينال إعجابها. وتلتحق به إلى ريو دي جانيرو التي عين فيها قائماً بالأعمال. وروبرت هو الرجل الثالث في حياة تمارا.
في ريو دي جانيرو تعيش تمارا حياة مرفهة. وتستعيد رياضة ركوب الخيل التي تعلمتها في بستان زوجها في العراق. وفي نادي الفروسية احتكت بها زوجة العمدة، وأعجبت بها. فدعتها مع روبرت الى حفلة كوكتيل وعشاء يحضرها بقية القائمين بالأعمال. تنبغي الإشارة الى أن من بين أسباب اهتمام زوجة العمدة والعمدة بتمارا هو أن تمارا كانت قد شهدت حرب 1991 على العراق، وسنوات من أيام الحصار الاقتصادي على العراق. وفي دارة العمدة (عمدة ريو دي جانيرو) دار حوار بين تمارا والقائم بالأعمال الأميركي حول موضوع الحصار، ذكرت فيه تمارا أن لكل مسرحية ذروة، وأن الحرب تعتبر ذروة الوضع السياسي المتأزم. لكنها تعتقد أن الحصار كان هو الذروة في الوضع السياسي بين العراق والكويت، وأكدت أن حرب الكويت كانت لعبة "إمبريالية" قذرة، وهناك خلفية تاريخية تأتي مصداقاً على ذلك.
"ما هي هذه الخلفية التأريخية، عزيزتي الآنسة تمارا؟"، سألها القائم بالأعمال الأميركي.
فقالت له تمارا إن لدى صديقها الكاتب العراقي المقيم حالياً في لندن وثائق تثبت ذلك.
وبعد أن أثار هذا الموضوع فضول بقية الحضور، التمسوا من تمارا الاتصال بصديقها الكاتب. كان هذا موقفاً مثيراً جداً، وينطوي على أهمية بالغة بالنسبة الى تمارا. فاتصلت بصديقها السابق هيثم من صالة العشاء في دارة العمدة وهي مترددة بسبب انقطاع علاقتها به. وصفوة القول، أقنعت تمارا صديقها السابق هيثم، إذا كان ما يزال يحبها، بأن يتحدث مع القائم بالأعمال الأميركي حول الخلفية التاريخية لحرب الكويت.
لا أريد أن أدخل في تفاصيل أكثر حول الموضوع، سوى أنني أود الإشارة الى أن تمارا كانت فخورة جداً بمنطق صديقها هيثم، فتقرر العودة إليه.
آه، لكنها أحست بالاختناق في شقة هيثم التي تحتوي على غرفة نوم واحدة، بعد أن ذاقت الترف مع روبرت في منزله الواسع، وقبل ذلك في قصر زوجها السابق في العراق. فتقرر هجره مرة أخرى والالتحاق بأمها في ميامي (بعد أن انفصلت هذه عن زوجها لأسباب قانونية). وكانت تمارا قد بيتت أمراً، ممارسة البغاء "الراقي" في ميامي لتجمع مبلغاً مجزياً من المال (مليون دولار مثلاً)، في مدة محدودة من الزمن. وبعد وصولها الى ميامي تعرفت الى البروفسور (الشاب) أندرو كلارك، أستاذ العلوم الدينية في جامعة ميامي، وهو زميل لزوج أختها ناديا (وهو الرجل رقم أربعة). فيقع أندرو في غرامها. لكنها تخبره بمشروعها الجهنمي الذي ركب رأسها، ولم تفلح محاولات أندرو في صدها عن رغبتها. غير أنها أكدت له بأنها ستعود إليه عندما تقرر الكف عن عمل الليل. وبعد زهاء عام ونصف العام، تقرر تمارا الكف عن ممارسة حياة الليل التي هدمت روحها، والعودة الى أندرو الذي كان في انتظارها. عادت تمارا إليه وهي تبكي لأن حياة الليل دمغتها بالسقوط، بالرغم من أنها علمتها درساً جديداً...
الرواية طويلة (500 صفحة)، وهناك تفاصيل غنية ومثيرة للاهتمام. وأخرج من هذا لأقول إن تمارا بقيت امرأة لها سحر هائل على الرجال بالرغم من جنوحها في فترة من حياتها!