طالب عبد العزيز
يسمّي اليابانيون عملية إصلاح الاواني المكسورة (فن الكينتوسي) ويذهبون أبعد في تقييمه، فيقولون هو فنُّ إحياء الجمال، لأنهم يستخدمون الذهب والفضة والبلاتينيوم في تجميع قطع الاكواب والمزهريات والاقداح المكسورة، وإظهارها بالشكل المختلف،
عمّا كانت عليه، حيث ستكون الاجزاء الملتئمة واضحة، يتخللها الملاط الذهبي، فلا يعيبونها عند أحد، لأنها ستكون أثمن قيمة، وأكثر جمالاً، وأخلد في الذاكرة، وما العملية هذه إلا مغامرة أخرى، لا يحسنها إلا الرفاؤون المهرة، وهي حرفة كانت منتشرةً في اليابان والصين، ولعلها أتتنا من هناك، فقد كانّ مشهد الرفائين وخيّاطي الخزف مؤنساً لنا، وهم يجوبون الأديرة والقرى منادين بأصواتهم التي ما زالت تتكسر في اسماعنا أباريق وصحونا.
الكينتوسي فن مأخوذ من حكاية قديمة، مفادها أنَّ أمير الحرب(أشيكانا يوسيما سا) كسر آنيةً خزفيةً كانت مفضلة لديه، وحزن لكسرها، فأصلحها له الحرفيون في الصين، ظنَّاً منه بأنَّهم سيعيدونها الى هيئتها، حيث كانت جميلة، لكنه لم يكن مسروراً بالنتيجة، فقد رآها مرممة بالمسامير والاسلاك- هلّا نعود بالزمن نصف قرن ويزيد، لنتذكر أمهاتنا واقفات قبالة أولئك الرفّائيين، وهنَّ يحملنَّ أباريق الشاي والقصاع والصحون الخزفية، آملين إصلاحها على ايديهم- والمشهد كان مألوفاً لنا، في المقاهي، مع خيوط الشاي الحمر الداكنة، وهي تنزُّ من شقوق الاباريق المرممة بالمعدن البخس، فيتلقفها الجمر.. ياه، كم سحقت ارواحنا المشاهد والمعاني تلك، ولم تكُ حكاية الامير قد وصلتنا بعد. لكنه، لم يرضَ بما صنعه (المهرة) الصينيون فذهب بها الى أقرانهم اليابانيين، الذين رمموا قطع الآنية المكسورة بملاط من الذهب والفضة والبلاتينيوم، فعاد مسروراً بالمعنى الذي خلقته النظرة الاولى لها.
ظلت شقوق الاناء واضحة ومعلومة، لم تأت عليها يد المحو والاخفاء، هي فلسفة (الوابي سابي) عند اليابانيين، التي تقوم على مبدأ البحث عن الجمال، في كلِّ ما هو غير مكتمل وناقص، أو هي فلسفة (فنتاي) التي تعبّر عن الندم عندما يتم إهدار شيء ما، هذه الفلسفة التي تقوم على مبدأ تقبّل العيوب، وإظهارها في افضل حلّة وصورة ممكنة، والجرأة على تسليط الضوء عليها، إذْ كل قطعة مكسورة تعدنا بمعنى ما، وإن كانت جزءاً من تصميم سابق، فهي الآن شكل جديد، متفرد بذاته، يقوم على فلسفته الخاصة، وفي كونه يتقدم الينا لا بوصفه مسهماً في شكل سابق إنما بكونه يتمتع باستقلالية، قائمة بوجود الاجزاء الاخرى، وما الملاط الذهبي إلا الروح الجامعة، التي تغذي الجسد المرمم ذاك.
منذ لحظة الترميم الاولى أصبح لكل جزء موصول بالاجزاء الأخرى حاضر جديد، وتاريخ مستقل، وجغرافيا خاصة، فقد أعيد الحطام المتناثر بالملاط الذهبي، لا على الهيئة البليدة تلك إنما بالروح المتماسكة، العصيّة على الكسر. الكينتوسي يبعث برسالة عظيمة الى الانسان، رسالة ترغمه على إعادة اكتشاف نفسه، والتفكير بصيرورتها التي لا تقف على شكل ومعنى، وتجبره على تقبّل عيوبه، وعدم اللهاث وراء الكمال، فنحن بني البشر مكسورون بشكل أو بآخر، وكسورنا هذه مصدرٌ للجمال لا للقبح، وهي قوتنا التي لا يجب إخفاؤها.