TOP

جريدة المدى > عام > النقد الأدبي العراقي: بين انحسار الفكر والتّسمُّر الوظائفيّ

النقد الأدبي العراقي: بين انحسار الفكر والتّسمُّر الوظائفيّ

نشر في: 12 يونيو, 2022: 11:28 م

د. نادية هناوي

الفكر والإبداع أمران ليس سهلاً ممارستهما معاً ما لم يكن المفكر قد هضم الفكر الذي قبله وأعاد إنتاجه باحتراف وعلمية،

وما لم يكن المبدع قد امتلك الموهبة ودرَّب الذائقة وطوّرها فأنتج جديداً يتلاءم ودرجة ذلك التدرب والتطور. وإذا كان الفكر يتطلب من الوسائل والمسببات ما لا يتطلبه الإبداع الذي يصور الواقع وقد مازج الفكر بالتخييل منفلتاً من أية مواضعات باحثاً عما هو مغامر وغير مألوف؛ فإن صورة هذا الواقع فكرياً ستكون أكثر تفصيلاً ودقةً من صورته إبداعياً كونها ستضع النقاط على الحروف أسباباً ومسبباتٍ وقد تقيدت بالعلم التجريبي والملاحظة العملية الخاضعة للمقايسة والقابلة للتبويب والإحصاء.

ويظل بين المفكر النظري والمنتج الإبداعي مسافة فارقة إن تجاوزها أي منهما تبدل حاله وصار غيره، وأعني بهذه مسافة النزوع العلمي الذي حضوره يحوّل المبدع إلى مفكر حكيم، وغيابه يجعل المفكر أديباً مبدعاً. ولا عجب إن كانت نسبة المفكرين النظريين الذين يكتبون عن واقعنا العربي بعلمية ومنطقية بكل ما فيه من تجاذبات سياسية واجتماعية وأخلاقية أقل بكثير من نسبة المبدعين داخل هذا الواقع. ولعل أوضح دليل على هذا التباين النسبي هو( النقد ) كميدان ثقافي فيه يجتمع الفكر التجريدي بالإبداع الأدبي لكن كفة الإنتاج الإبداعي فيه تعلو على كفة الفكر إذ ليس اهتمام الناقد منصباً على التفكر في النقد بقدر اهتمامه بالإبداع من أجل فهم أدبيته، تساعده في ذلك وسائل النقد من نظريات ومنهجيات. وبانجذاب النقاد نحو الأدبية وهم يمارسون وظائفهم النقدية في التحليل والتشخيص والرصد تكون الوسائل المنهجية لديهم مجرد عوامل مساعدة وتحصيلا حاصلا وليست أساسيات معرفية ينبغي التفكر فيها وتطوير أشكالها وابتكار غيرها. وقد يكون الوصول المريح للغاية سبباً في تسمّر وظيفة الناقد العربي عند أدبية الأدب وقد قنن مقاصده. أما التفكر في نقدية النقد وما ينبغي أن تكون عليه عمليات التنظير المناهجي والتجريد الوظائفي والاجتراح المفاهيمي فليس الناقد معنياً بها دائماً ولا هو واضع إياها على قائمة مهامه وأعماله.

وطبيعي أن تؤدي تراكمات هذه النظرة إلى أن يصبح نقدنا جهازاً من الاصطلاحات والتكنيكات التي متى ما استدعاها الإبداع الأدبي وطلبها كان الناقد حاضرا لتطبيقها. وهذه الجاهزية لا تعني الاستغناء عن أي تفكر غايته ابتكار الوسائل والأدوات أو التفنن في الصياغات والمنظورات حسب؛ بل هي تعني أيضا بقاء الناقد ملاحقاً على الدوام الأدب باحثاً فيه عما يطبقه عليه من وسائل نقدية كان قد هضمها وتمرن عليها ملبياً غايته الإبداعية التي ببلوغها يكون قد أدى عمله خير أداء. فكيف بعد هذا الوضع يلاحق الأديب النقد ليجد فيه ما يطور أدبه.

من هنا لا نجد للنقد صدى عند الأدباء إلا صداه مروجاً لأدبهم وطريقاً يثبت إبداعيتهم ويشبع ذاتيتهم إشهاراً وتعريفاً. ولا فرق بعد ذلك إن كان في ذلك النقد توكيد لايجابياتهم أو تحديد لسلبياتهم.

ولم يكن نقدنا العربي إبان مرحلته المنهجية النهضوية التي شهدها على يد طه حسين ومحمد مندور ومحمد غنيمي هلال وعلي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس وغيرهم من النقاد الرواد قد انصبت عنايته على الأدب بوصفه غاية حسب؛ بل كانت غايتهم أيضا التوجه توجهاً حثيثاً نحو تلمس مبدئيات النقد الأدبي، مهتمين بالمنهجيات والطرائق التي كان الغربيون قد طوروا كثيراً منها فلسفياً وعلمياً محاولين تطبيقها على تجاربنا الأدبية وبالشكل الذي يتلاءم مع ذائقتنا التحليلية، غير مكتفين بترجمة اصطلاحات ومفاهيم أنتجها النقد الغربي؛ وإنما مضيفين إليها فكراً جديداً ترشح من خصوصية ممارساتهم النقدية على نصوصنا الأدبية العربية القديمة منها والحديثة. فكانت لطه حسين نظراته الفكرية في الشعر والتاريخ وكانت للطاهر آراؤه في الناقد والنقد تأثرا وتأثيرا كما كانت لباحثين عراقيين درسوا على يد مستشرقين غربيين آراؤهم النقدية في نظريات الاجتماع والتاريخ مثل جواد علي ومحسن مهدي.

ولعل التساؤل عن أسباب انحسار ممارسة الفكر النقدي عندنا في العقود الأخيرة هو التساؤل نفسه عن أسباب نشاط حركة التعريب نشاطاً جعل نقدنا يغص بما يترجم إليه من معرفيات الفكر النقدي العالمي إلى الدرجة التي فيها يجد الناقد العربي زاداً يغنيه عن التفكر والتدبر ويغريه بالاتجاه نحو التطبيق تحليلاً وفحصاً. وليس صعباً بعد هذا الفقر في الفكر النقدي من جهة والغنى في ممارسة النقد التطبيقي على الأدب من جهة أخرى أن يُعدَّ أحدهم نفسه( ناقداً ) وهو ليس سوى نويقد او متناقد إن لم يكن نصف قارئ أو ربعه، اولا لعدم امتلاكه الوسائل المنهجية وثانيا افتقاره الى الذخيرة المعرفية وثالثا جهله بالعدة المرجعية ..ألخ.

لا غرو أن اغترارنا الأدبي بالخيال وتبعيتنا المعرفية للاخر هما العلة الكامنة وراء تأزمنا وانحسارنا المعرفي عن العالم على مختلف الصعد الحياتية لا على صعيد النقد الادبي وحده. وما كان للنهضة العربية في العصر الحديث أن تكون علمية وفكرية لولا شعور مثقفينا آنذاك ببعض الحرية فهبوا ينفضون عنهم التبعية بالحفر في ما ترسخ في جينالوجيا وعينا الجمعي على مدى أربعة قرون وأكثر من الاستعمار والتجهيل والتعتيم والاستغفال. وبالفعل دب التنوير وتبدل الوعي في مختلف نواحي حياتنا وانحسرت التابعية للأجنبي ونشط فكر واع تحرري وثوري كانت محصلته نيل الاستقلال والسيادة في كثير من البلدان العربية.

بيد أن أمر الحفر في الجينالوجيا العربية انحسر مع حلول مرحلة استعمارية جديدة أو ما بعد استعمارية هي اشرس من المرحلة الأولى كونها توغلت بالعولمة وما بعد العولمة إلى هويتنا العربية فمزقتها والى كينونتنا فشرذمتها. فعادت التبعية من جديد لا معرفية فقط بل تكنولوجية واقتصادية وأخلاقية وإدارية.

فكيف بعد ذلك يكون متاحاً لنا أن نفكر بوعي متحررين وأحراراً ونحن نغرق في تابعية تغلغلت حتى رسخت داخلنا رسوخ الحجر. وإذا حصل وصار لنا فكرنا وأنتجنا نظريات فلن يعبأ بفكرنا ونظرياتنا الآخر الذي نحن في نظره تابعين وما علينا سوى أن نستهلك ما يصدره لنا. وليس مطلوبا منا أن ننتج جديدا نستأصل به ما في وعينا الجمعي من جينالوجيا التبعية أو أن نترجم نتاجاتنا إلى لغة الآخر فنشعره بأنه بحاجة إلينا وهو الذي يرى نفسه متفضلا ومتفوقا علينا بما يقدمه لنا من معارفه وعلومه.

وهذه التصورات التي قيدت عقولنا ولجمت آفاق التفكير لدينا تجعلنا نتساءل عن فائدة ما اجترحه المفكرون العرب من نظريات حول العقل والمعرفة والمعنى والانسان والعمل والاخلاق وليس في بالنا أن نبني عليها ولا في وعينا أن نكون متشاركين وغيريين في تعاملنا مع بعضنا بعضا ؟ وإلى متى نظل غير واعين إلى حقيقة أن أي مشروع فلسفي لكي ينمو ويتجذر يحتاج الى اهتمام الجميع ولا فرق إن كان هذا الاهتمام بالتضامن والقبول أو كان بالرفض والمعارضة ؟ وكم هو عدد المفكرين العرب الذين امتلكوا من الحرية ما غيّروا بها الانقياد والتابعية في داخلهم فأنتجوا فكراً كان جديراً أن نسانده لا أن نستهجنه ونرفضه ناظرين إليه على أنه مشروع خاص بصاحبه الذي أنتجه، ولا شأن لنا إن عاش معه أو مات بموته ؟

إن المؤسف حقا هو تناقص الفكر النقدي في مقابل ازدياد عدد الموصوفين بأنهم نقاد تطبيقيون يوماً بعد يوم حتى صار طابورهم طويلاً وفيه شتى الأصناف من قراء وعارضي كتب وهواة ومحترفين وصحفيين ومتناقدين أكاديميين وغير أكاديميين وكتّاب نقد ومتأدبين. وبسبب هذه الطابورية اُستسهل العمل النقدي وساءت النظرة إليه حتى غداً أسلوباً للتقرب أو طريقاً للنيل والتعريض وليس علماً له مواضعاته وفلسفة لها من يرودها ويعرف دروبها.

وبكثرة هؤلاء الذين يمارسون التطبيق النقد الأدبي ستضيع أهمية الفكر النقدي وستقلّ هيبته حتى يغدو ممكناً لأي أحد أن ينتقص الناقد ويؤاخذ عمله. وليس العيب هنا في النقد إنما العيب في الناقد الذي صار همه التطبيق وليس التفكير. وهو ما يحتاج إعادة النظر في أساسات نقدنا الأدبي وبصورة جذرية وعلمية، باحثين في ما تراكم فيه من أبنية سليمة أو غير سليمة كي لا يظل الناقد العراقي في وهم أنه وصل إلى طريق مسدود أو أن النقد بلغ النهاية وما عاد يقدم خدمة للمجتمع وأنه غير معافى وطفيلي وليست له وظيفة، ومن ثم يعول ـ جذلا وانتشاء ـ على( النقد الثقافي ) ظانا أنه خير بديل عن النقد الأدبي، غير مدرك أن ذلك مجرد شماعة عليها يعلّق إخفاقاته الجمة في فهم النقد ومناهجه اولا، ويداري آخرا على قصوره الكبير في تطبيق المفاهيم والاصطلاحات وتوظيفها في معالجة الاشكالات وحلها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد الأحمد

    الحقيقة : بودي ان اثبت هذه الشهادة بحق هذه الناقدة العملاقة التي تكشف عن عمق ووعي نقدي متميز يؤهلها ان تكون ناقدة بين النقاد القلائل في العراق... نسجل لها جديتها، وكشفها ومحبتنا لجهدها....

يحدث الآن

"ذو الفقار" يستهدف وزارة الدفاع الإسرائيلية

مالية البرلمان تحدد أهداف تعديل قانون الموازنة

نائب عن قانون تعديل الموازنة: من المستبعد إقراره خلال جلسة الغد

مفاجأة مدوية.. نائب يكشف عن شبكات تتجسس على المرجع السيستاني

برلماني يصف الوضع السوري بـ"المعقد": العراق يسعى لحماية مصالحه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram