يرى أن الخمسينيات شهدت فكرة الارتباط البنيوي بين العمارة والفن والادب لانتاج ثقافة جديدة
حاوره: علاء المفرجي
القسم الاول
ولد في بغداد وأنهى دراسته الأولية والأكاديمية فيها، حيث نال شهادة البكالوريوس من كلية الهندسة/ جامعة بغداد عام 1967، ونال الماجستير من جامعة لندن..
تمتد خبرة المعمار اكرم العكيلي لاكثر من 40 عاما في مجالات العمارة و التخطيط التصميم الحضري و ادارة مشاريع كبيرة عديدة في القطاعين العام و الخاص في منطقة الشرق االوسط وشمال افريقيا وانكلترا وتتضمن مشروعات التخطيط الحضري و التصمـيـم المعماري لمجمعات ذو استعمالات متعددة ذات طابع رسمي و حضاري كمراكز الدولة وقصور الضيافة والمؤتمرات و االبنية الثقافية و الصحية في القطاع العام ومجمعات أستثمارية لشركات التطوير العقاري و مشاريع الحفاظ على التراث و البيئة المستدامة ، فاز في العديد من المشاريع من خلال المسابقات العمارية المهمة في المنطقة والتكليف المباشر في بغداد و الكويت و لندن و بيروت وباكستان والجزائر والأمارات العربية وعمان بالفترة من العام (1972 - 2003).
حاورته المدى للوقوف عند أهم المحطات في حياته العامة والمهنية
أسال عن نشأتك وطفولتك، ترى ما الذي هداك الى الى مسالك التخطيط وفن العمارة، وما المصادر التي غذت ميلك الى هذا الاتجاه؟
في بيت بغدادي تقليدي بسيط لايتجاوز مساحته الثمانون مترا مربعا في احد الازقة المتفرعة من «باب الدروازة « في منطقة الكاظمية حيث تتوزع بيوت عشيرة العقيلي ( العكيلي) المتفرعة من عشيرة ابا الخيل العائدة لقبيلة عنزة المهاجرة من شمال الجزيرة العربية التي نشطت في تجارة الابل وقيادة وحماية القوافل التجارية بين الجزيرة العربية والشام وكادلاء للقوافل العسكرية العثمانية والتي استوطنت واستقرت خارج سور المدينة التاريخي في منتصف القرن السابع عشر الميلادي قبل ان تنتقل لداخل محيط المدينة التاريخي العمراني بموقع مجاورا للباب الجنوبي ( باب الدروازة ) قبل ان تتطور علاقتها في المجتمع الكاظمي التقليدي المحافظ لصبح جزءا من تكوين نسيجه المجتمعي التي انشغلت بزراعة النخيل في المنطقة التي استقروا فيها وتطورت لبساتين كبيرة تم تحويلها غالبيتها الى قطع اراضي سكنية في بداية الخمسينات اطلق عليها ولاتزال منطقة « العكيلات»
في العام 1952 بدأ الوالد بانشاء مصنع للطابوق في منطقة التاجي بمشاركة من مقربين حيث تولى مسؤولية الاشراف على العمل بانشاء المصنع ومن ثم ادارته حتى العام 1958. كنت ارافقه في رحلته الاسبوعية الى موقع البناء موعد تسليم اجور العمال الاسبوعية بالدراهم الفضية التي غالبا ماكانت مسكوكة جديدة و كنت اشارك في عدها وسماع قرقعة وضعها في اكياس صغيرة عدا الاجور التي كانت بالدنانير واجزائها الورقية لكبارهم . كنت اراقب باهتمام ونحن في الطريق ابراج مداخن ( بوجة) المصانع تحت الانشاء او المكتملة بارتفاعاتها وحجومها المختلفة وكان الوالد عادة مايسألني عن رايي بالاجمل من بينها . كان السؤال يثيرني لابحث بالفطرة على نسب البناء كالارتفاع والابعاد ونسبة الميول المختلفة لكل منها لاختيارها كالمدخنة الاجمل وخاصة في انهاءها بالقسم العلوي المستقيم منها “ العرقجين»»»
استطيع القول من المقاربة وتجربة الطفولة في مراحلها المختلفة بانني كنت لصيقا بمفردات البناء برائحة الطين والطابوق و بالرمل والاسمنت ومجبولا بمشاعر الحزن العراقي والتراث الطقوسي العاشورائي والتفاعل مع الارض والطين وانين وجع المراة الريفية العاملة الحاملة لطفلها فوق ظهرها.
وكيف اخترت دراسة العمارة؟
حصلت على شهادة الاعدادية العام 1962 ممتلكا الحس الفني في الرسم بتشجيع استاذ الرسم المرحوم خليل الورد، والادب والنحو والشعر بتوجيه المرحوم البصير جارنا الذي كنا نزوره في امسيات الشتاء الاستاذ صفاء الجلبي لذا استطيع الادعاء بان تلك الظروف وسط بيئة اجتماعية لمدينة يختلط فيها الوعي الفكري اليساري التقدمي والديني وفي جو طلابي مسيس يتم فيها مبكرا مطالعة مؤلفات ديستوفسكي وغوركي وتولستوي وسلامة موسى ويتداول شعر مظفر النواب والجواهري ونزار قباني والتعرف والاستماع الى الموسيقى الكلاسيكية , مدينة تمارس فيها طقوس عاشوراء بتنوعها التعبيري الجماهيري الحركي الشعري واللحني واللوني ورائحة الشموع بلوحة وعمل متكامل تعكس وحدة المجتمع الاخلاقي وتراثه الطقوسي والعقائدي المتوارث في الفكر الشيعي السائد الذي كان يأخذ طابع التحدي في شعر المواكب الحسينية التي يتقدمها موكب العائلة ومسيرتها التي كنت احرص على المشاركة فيها ملتصقا بعمود علمي الحسيني.الذي نذرته لي المرحومة جدتي لابي .
قدمت اوارق طلب القبول في هندسة العمارة متلهفا، وزاد من قلقي بانتظار زيارة رئيس القسم المرحوم الدكتور محمد مكية برفقة والدي والاسطة حسن رشيد الذي كان يقوم ببناء مساكن من تصميمه رغبة بالتعرف عليه وعلى مباركته لهذه الرغبة كمؤسس لقسم العمارة ورئيسه ذهبنا عصر يوم من ايام آب 1962 الى الباب الشرقي في عمارة مرجان التي لاتزال قائمة في الباب الشرقي حيث يقع مكتب د. مكية، ودخلنا عليه مرحباً وبادر الأسطة حسن رشيد بمهمة التعريف .
لقد كان مظهره صارماً، وهيئته تنم على شخصية قوية ، وبعد السلام و معرفته سبب الزيارة توجه لي بالسؤال عن سبب رغبتي دراسة العمارة، وكما تعلمنا في ظروف العواطف والشعارات السياسية انذاك كان جوابي “لخدمة الوطن استاذ”. الجملة التي أستفزته وأثارت لديه رد فعل وانفعالا صدمني واستمر موجها لي بكلام ولاذع : “ وان كانت رغبتك لخدمة الوطن فعليك أن تكون ضابطاً عسكرياً وليس مهندسا معماريا فالعمارة علما وفنا ومسؤولية اجتماعية انسانية تتطلب حب العمارة والشغف بها والتضحية في سبيلها خلال فترة الدراسة وبعد التخرج”. احرجني و افاقني مما كنت اجهله عن العمارة التي كنت اعتبرها موضوعا جميلا ومجردا من تلك المحددات العلمية والمهنية لتقودني لمنهج مسؤول وطريق واضح لما ينتظرني من جهد وعمل ومثابرة كانت و لاتزال محفزا لي على البحث والمعرفة والدراسة الموسوعية المطلوبة ..
انحسار الثقافة المعمارية رغم التراث المعماري الكبير، ووجود رموز معمارية يعتد بها؟ الى أي مدى نحن بحاجة الى اشاعة الوعي باهمية وخطورة هذا الجنس المعرفي المهم.
عندما نتحدث عن الثقافة في العمارة علينا ان ندرك بان العمارة و الفن بكافة فروعه، هم وحدة شاملة متماسكة مصدرها ووسائل عملهم واحدة حتى وان تشعبت اساليب التعبير عنها في الرسم والموسيقى والشعر والتمثيل والنحت والسيراميك والخط والعمارة والتي يتعامل معها الفكر الانساني وجهازه البصري مع مصدر خارجي بتلذذ لانواع الفن ومنهجه المتشابه كما اننا لانيستطيع ان نتجاوز مراحل تشكلها التاريخي وتطورها او ان نفصلها عن دور وتجربة رموزها الذين يشكلون مجتمع النخبة القائدة لحركة المجتمع الثقافية بكل صورها و التي تطورت من خلال تراكم معرفي ووعي مجتمعي بقيم حضارية تمثل بمجملها صورة تعكس مرحلة التكون البنائي الثقافي للمجتمع في مرحلة زمانية محددة تشكلت فيها بذور واسس وحركة النهضة العمرانية التي تمثل “ عمارة الحداثة “ (عمارة الحداثة في بغداد -سنوات التأسيس -2014) كما يطلق عليها الصديق المعمار المؤرخ والناقد الدكتور خاتلد السلطاني واحدة من مخرجاته الفكرية والثقافية التي بدأت بالظهور في اوائل القرن العشرن مع تأسيس الدولة العراقية والذي شمل انجاز البنائين والحرفيين وانتقالهامن التقاليد الحرفية التي كانت سائدة ابان العهد العثماني والتي بدات باصلاحات والي بغداد مدحت باشا (1822-1884) حيث شهدت تحديث البنى التحتية والخدمات العامة على ان البيئة العمرانية المبنية حافظت على تشكيلها التخطيطي في سور المدينة الذي تمت ازالة بعض اجزائه وشبكة ازقة عضوية لمناطق سكنية مترابطة اعتبرت المكون الاساسي لبيئة المدينة ومثل البيت البغدادي المستدام فيها والمنشأ ضمن مساحة صغيرة ومحدودة بفنائه الوسطي المكشوف بفضاء سماوي محاط باحياز الغرف الوظيفية المختلفة باعمدة اواوينه الخشبية الرشيقة التي تنتهي بتيجان تكويناتها المقرنصة وشناشيلها الخشبية المطلة على ازقة وفرت متطلبات البيئة المتكافلة اجتماعيا والمحمية امنيا وبيئيا ومثلت نموذجا رائعا للمنتج العمراني التراثي المتميز لعمارة بغداد . لقد ضمت المدينة التقليدية اسوة بكل المدن الاسلامية ابنية عامة دينية وخدمية وتاريخية ترجع ا الى فترات زمنية مختلفة كالمدرسة المستنصرية وخان مرجان وقباب مئاذن الجوامع ومشاهد المراقد الدينية التي تكرست فيها التقاليد البنائية المحلية باستخدام الطابوق كمادة بناء محلية تقليدية اضفى خصوصية على طبيعة العمارة البغدادية انعكست بشكل اساسي في عمارة المساجد في طرق تسقيف واشكال القباب والماذن واستعمال الطابوق في الواجهات اضافة الى الخشب في تشكيل العناصر المعمارية الجمالية من زخارف هندسية وكتابات بخطوط متنوعة ومتداخلة منحت تلك الابنية طابعها المميز وهويتها المحلية كمبنى القشلة (1861) ومبنى المتصرفية القريب والذي تم حرقه ولانزال بانتظار القرار لاحيائه وأعادة تشكيله المعماري والوظيفي والعمراني ضمن نسيج شارع المتنبي ومنطقة جديد حسن باشا ونجهل سبب اهماله من اصحاب القرار .
تمثلت المرحلة الثانية بتاثير ثقافة المهندسين والمعماريين الانكليز الكلاسيكية التي ادخلوها بعد الاحتلال البريطاني للعراق وتسنمهم الوظائف الحكومية التي أنيطت بهم بتصميم وتنفيذ الابنية الوظيفية أج. ميسون و جي . بي. كوبر وجاكسون وحتى نهاية 1936 اضافة الى الميجور أ.جي. ويلسون من الذين عملوا في الهند و اعتبره الدكتور السلطاني “ احد مؤسسي عمارة الحداثة البغدادية ورائدها المهم” ومن اوائل هذه المباني التي صممها المعماريون الانكلي.
ما هي شواهد العمارة العراقية عن ذلك.. وبرأيك ماذا تمثل هذه المرحلة في تاريخ الفكر العراقي؟
في تلك الفترة “ جامعة اهل البيت “ 1924 “ومحطة بغداد للسكك الحديدية “ (1949-1952) و “ الضريح الملكي “ 1934 -1937) في الاعظمية ومبنى كلية الهندسة في باب المعظم 1936 ومبنى معهد الفنون الجميلة و”مبنى الكلية الطبية “ 1930. حيث تميزت عمارة المرحلة بكونها عمارة بناء منفرد ة سادها الاستعمال الكامل للطابوق كمادة انشائية رئيسية ويغلب علي اكثر تكويناتها التناظر الكلاسيكي . لقد تحول الفضاء المكشوف في الدور السكنية بهذه المرحلة بعد توسع المدي الى فضاء مغلق “ الهول” مع الحفاظ على توزبع الغرف حوله كما بدأ استخدام العقادة بالطابوق على جسور حديدية كاسلوب جديد في سقوفها ولم تغب تأثيرات الثلاثينات عن تاثيرات عمارة النيوكلاسيكية لاثراء مظهر الدور السكنية التي تعود الى اثرياء المدينة ومسؤوليها والتي شكلت تغريبا عن العمارة البغدادية السائدة. .
مثلت مرحلة العمارة والفنون والشعر بعد الحرب العالمية الثانية الى الخمسينات و اقترنت بهجرة العلماء والفنانين التي ساعدت بتاسيس مدارس فكرية ومعمارية وفنية حديثة ساهمت في تطوير الدراسات الجامعية في مجالات التخطيط والعمارة والفنون وفتحت افاق فكرية جديدة وفرت للمبتعثين العراقيين في مختلف الاختصاصات فرص تطوير قدراتهم العلمية والفنية والتأثر بالحركات الحديثة التي انعكست باعمالهم بعد العودة وظهور التجمعات الفنية والادبية والتي تعتبر الفترة المؤسسة لمرحلة التحول والتأصيل والمنجز المتميز في كافة مفاصل الحداثة الفكرية و المعمارية والفنية والادبية التي قادها المعماريين والفنانين الرواد بتأثيرات حركة الحداثة في التخطيط العمراني و العمارة والفن وظهور التيارات التي اقترنت بالتقدم في تقنية البناء والانشاء . فساهم ظهور د.محمد مكية وجعفر علاوي ومدحت علي مظلوم وعبد الله احسان كامل وبعده رفعت الجادرجي وقحطان المدفعي وقحطان عوني في رسم افق الحداثة في العمارة العراقية والتي كان تاسيس جمعية الفنانين بمشاركة المعماريين الرواد احدى منجزات تلك المرحلة ساهمت في بلورة وتشكل حركة تأصيل الفن والعمارة العراقية بحداثتها المنطلقة من تحليل التراث الرافديني واعادة تشكيله ضمن سياق مميز محليا وعالميا .
ولم تقتصر الحركة المعمارية الحديثة على المعماريين الرواد بل ساهم بتطويرها تكليف حكومة مجلس الاعمار معماريين عالميين بتصيم مشاريع مجلس الاعمار لمباني حكومية وثقافية وخدمية كجامعة بغداد لولتر كروبيوس 1956 وملعب الشعب للوكوربوزيه1957 ودار اوبرا بغداد لفرانك لويد رايت 1957 ووزارة التخطيط لجيو بونتي 1958 والسفارة الامريكية لخوسيه لويس سرت 1955 وعودة جون برايان كوبر لتصميم البلاط الملكي ( القصر الجمهوري ) في 1954
وشهدت المرحلة تعزيز فكرة واهمية الارتباط البنيوي بين العمارة والفن والادب لانتاج ثقافة جديدة ووعي مجتمعي تمثل في نشاط الحركة الفنية والادبية وظهور المعارض الفنية والمشاركة في المؤتمرات والمسابقات الدولية . كما شهدت المرحلة تأسيس قسم العمارة في كلية الهندسة في العام 1958 من قبل الدكتور محمد مكية والاساتذة عبدالله احسان كامل وهشام منير والذي اسس باختيار اساتذة من دول اوربية عديدة معروفة بخبرتها الاكاديمية وتم دعم منهج الدراسة باساتذة مختصين في الرسم والخط والنحت وعلم الاجتماع والتاريخ . وكان وعاء علميا وفنيا تخرج منه وساهم في تعزيز المنتج العماري الثقافي المحلي العديد منهم وضمان استمراريته الى ماقبل بدأ كوارث الحروب والحصار في العام 1980 التي عطلت زخم الحركة المعمارية والفنية والادبية وتوقف الكثير من المشاريع التي كانت تمولها وتشرف عليها الدولة الريعية وساهمت في مسلسل التراجع الذي حصل في كافة مفاصل الدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعلمية والعلمية والخدمية بغياب تلك الرموزواجيال تدربت على يدها في فترة الستينات والسبعينات والثمانينات ولاسباب مختلفة ادت الى الهجرة المستمرة للنخب والكفاءات العلمية والفنية والادبية اضافة التغيير الديمغرافي الكبير الذي حصل نتيجة لهجرة سكان الارياف الى المدن وبدأ مرحلة التشظي المجتمعي الثقافي والاخلاقي القيمي وتخلفها بانحدار استمر عجل بانهيارها الاحتلال العام 2003
هل أثرذلك في رأيكم بقضية التشويه واالابتذال اللذين تتعرض لهما العمارة العراقية، وطغيان الفوضى الحاصلة في عمارة الوقت الحاضر
لقد شهدت مرحلة الخمسينات كما اسلفت ولادة حركة الحداثة الفنية والمعمارية والادبية وساهمت بتشكيل وتطوير الهوية المحلية المتحركة في فضاء التطور التقني العالمي في الفكر و الانتاج المبني على نظريات علمية واقتصادية واجتماعية في مختلف القطاعات واستمرت وبنجاح في مرحلة الستينات والسبعينات قبل ان تتوقف في الثمانينات لترقى الى مستوى حداثي مميز تجاوز المحلية والاقليمية الى العالمية وان التشويه والابيتذال الذي ساد ثقافتنا المعمارية والفنية والادبية يعود لاسباب متعددة انتجتها انظمة الحكم الشمولي وكوارث الحروب العبثية التي انتهت بالاحتلال والاجهاز على ماتبقى من امل لاحياءها
لقد بدأت الحركة المناهظة للثقافة والفكر ورموز تشكلها وحركتها المستمرة الواسعة التي انتشرت محليا وعالميا خلال مراحل مختلفة بدأت خلال العام 1963 ومااقترن به من تصفيات سياسية للخصوم الذين كانوا يشكلون طليعة الحركة الفكرية والفنية والادبية منهم في قطاعات العلوم والهندسة والطب والتعليم والفنون والادب والهندسة والادارة وادت الى هجرة كبيرة لمن تمكن منهم من الهرب الى الخارج كما اخذت المرحلة في الاعوام التي تلتها محاولة ادلجتها لخدمة النظام الشمولي و تحجيمها بسيطرة القطاع العام وادرات الدولة في الدراسات و تنفيذ المشاريع وتحديد فرص المشاركة والعمل للمكاتب الاستشارية المحلية بحدود ضيقة والتضييق على من تبقى من الكبار منهم وزجهم في السجن واصدار الاحكام بحقهم بتهم الرشوة او التعامل مع شركات اجنبية استمرت الى نهاية السبعينات لتشهد مطلع الثمانين انفراجا نسبيا بدعوة عدد منهم للعودة والمشاركة في مؤتمر “ العمارة العربية الاسلامية “ الي انعقد في ايلول 1980 بحضور ومشاركة العشرات من المعماريين الدوليين المعروفين والتي بدأت بدعوتهم للقيام بتصميم مشاريع التطوير العمراني لمواقع تراثية مختلفة في بغداد ومباني الفنادق ومراكز ثقافية تهيئة لمؤتمر عدم الانحياز المزمع عقده في بغداد العام 1985 والتي توقفت مع بدأ الحرب العراقية الايرانية ليشهد العراق الفصل الجديد من مسلسل هجرة العقول والثقافة نتيجة الحروب والكوارث الاقتصادية والاجتماعية .
لقد ولدت هجرة العقول ونتيجة لاغتراب المعماريين والمفكرين والعلماء والاساتذة والفنانين والادباء العراقيين بشكل اساسي الى تخلف التعليم ومناهجه بكافة مراحله وخاصة في الجامعات والكليات وخلو الساحة المهنية والعلمية من رموز مرحلة التشكل الثقافي واجيال نتاج تلك المرحلة منذ الثمانين تلتها مرحلة التسعينات بعد مغامرة احتلال الكويت الرعناء وثم تحريرها وما تعرض له العراق من الحصار الاقتصادي والعلمي والخدمي والثقافي طوال ثلاثة عشر عام ادى الى فراغ ثقافي مجتمعي رهيب توسع بشكل مستمر حاولت السلطة ان تتولى فيه قيادة النشاط المعماري الذي ركز على عادة اعمار ماخلفته الحرب بما توفر من امكانيات ما تبقى من اصحاب خبرات مهنية في مؤسسات الدولة ومكاتب استشارية تم تشكيلها في الجامعات من اساتذة الكليات الهندسية بمحاولة “ لتوفير دخول اضافي’” بعد تدهور العملة ومستوى المعيشة بشكل كبير وبهدف المشاركة باحياء “روح التحدي النرجسي للقيادة” بانتاج “عمارة وفن شمولي “ تمثلت بالنصب و الجوامع والقصور الرئاسية التي كان يوجهها القائد وبما يناسب ذائقته الفنية الفجة والتي لم يكن بمقدور احد مناقشتها او تعديلها والتي خلقت نوعا جديدا من كوادر موظفين دون خبرة من خريجي هذه المرحلة المتداعية علميا وثقافيا التي تصدت للعمل الحكومي في هذه المرحلة التي تميزت بالضعف المهني والاداري والابتذال المعماري والفني الذي تميزت به تلك المرحلة و تجذرت بعد الاحتلال في 2003 بمظاهر التخلف الجمعي القيمي والثقافي (والابتذال المعماري ) كما وصفه الدكتور السلطاني و تسيد القيم الريفية والعشائرية على حساب القيم المدينية وتفشي ظاهرة ترييف المدينة والعشوائية السياسية والثقافية وجنوح العمارة والفن الى التعبير الساذج في امثلة العديد من المنتج المتردي نوعا وكما وتردي الذائقة الفنية الى مستويات مخيفة لم تخفي محاولتها المستمرة في تخريب ماتبقى من معالم المدينة الحضارية الفنية والثقافية.
ماهي برأيكم الاسباب؟
لقد سبق تدهور الذائقة المعمارية والفنية بعد العام 2003 وساعد في تجذيرها بشكل اوسع تشويه الصورة الاكبر لواقع المدينة المستلبة ثقافة وبيئة وعمرانا غياب الرؤيا التنموية الاقتصادية والخدمية والاجتماعية والتخطيط والعشوائية السياسية وضعف الادارة وغياب القوانين وادوات تنفيذها التي ساعدت على تفشي ظاهرة الفساد في كافة مفاصل الدولة واصبحت منظومة وشبكة هيمنت على قرارات الحكومات المتعاقبة وعطلت كل القرارات التي اتخذت لامكانية المباشرة بالاصلاح بغياب الارادة السياسية وادوات تنفيذها ومن اهمها تعطل اعتماد المخطط الانمائي لمدينة بغداد الى يومنا هذا و الذي انجز وتم تعديله في العام 2010 مما تسبب في غياب قوانين استعمال الاراراضي والبناء المصاحب لزيادة عدد النفوس وتردي وتدهور الخدمات وضعف سلطة الحكومة وادوات تنفيذ القوانين مما ادى الى مظاهر الاستيلاء على اراضي وعقارات الدولة بمشاريع ماا طلق عليه مسمى مشاريع استثمارية ساهمت في تجريف البساتين والاراضي الخضراء والفضاءات المفتوحة داخل المدينة وخارجها وتوسع اخطبوط السكن العشوائي لاكثر من مليوني نسمة في وحول المناطق الحضرية التي حولت المدينة بسكنها الحضري الى مظاهر ريف كبير مقطع الاوصال يقطنها ثمانية ملايين نسمة وتنتقل في شوارعها المحدودة والتي لم يجري عليها اي تطوير منذ تسعينات القرن الماضي ثلاثة ونصف مليون سيارة دون تخطيط او تنفيذ اي مشروع على الارض لتطوير النقل والخدمات في المدينة واقتصار الاهتمام على مايعلن وما يصرح به وبشكل يكاد يكون مسلسل كوميدي فج بشعارات اعلامية مرة بالق بغداد وأخرى بنهضة بغداد تعلمنا بنية الحكومة في بدأ العمل على مشاريع لم تتجاوز القرارات المتخذة دون ان يتوفر لها اية دراسات واليات تخطيط وادارة واشراف وتنفيذ ومراقبة . فهل نتوقع ان تظهر معالم عمرانية او فنية.