لطفية الدليمي
نٌشِرَتْ مطلع العام 2022 الترجمة العربية من كتابٍ ألّفه الفيلسوف والروائي الفرنسي ميشيل هنري Henry Michel عام 1987 ونُشِر وقتذاك بعنوان (الهمجية La Barbarie).
تُرجِم الكتاب من الفرنسية إلى الانكليزية عام 2012، ثم جاءت ترجمته العربية عام 2022 بالعنوان ذاته مع إضافة عنوان ثانوي هو (زمنُ علمٍ بلا ثقافة) في إشارة تأكيدية إلى الأطروحة الجوهرية للكتاب.
عُرِف عن ميشيل هنري (1922 – 2002) أنه فيلسوف فرنسي تخصّص في مبحث الفلسفة الظاهراتية Phenomenology، كما كتب خمس روايات وكتباً عديدة تناولت حقولاً معرفية شتى منها: السياسة والاقتصاد واللاهوت المسيحي والتحليل النفسي والثقافة. درّس هنري في جامعات عدّة في فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة واليابان.
تقومُ أطروحة هنري على تأكيد راديكالي للرابطة بين الهمجية الثقافية السائدة من جانب، والعلم والتقنية من جانب مقابل. يرى هنري أنّ العلم الحديث والتقنية الحديثة يعملان بالضد من التطوّر الذاتي لخصيصة إنسانية أسماها (الحساسية الفردية) التي رأى فيها دافعاً للارتقاء بالحياة الفردية النقية. يمضي هنري في تطوير فكرته بشأن هذا التعارض الحتمي - من وجهة نظره - بين العلم والحساسية الفردية ؛ فيؤكّدُ في مؤلفاته قائلاً أنّ العلم يتأسّسُ على الحقائق الكلية الموضوعية ؛ وهو مايقودُ إلى تهميش حساسية الفرد تجاه العالم والحياة. ثمة عنصر ميتافيزيقي جوهري تقوم عليه الحساسية الفلسفية للأفراد، والعلم يعمل على تقويض هذا العنصر. يستدركُ هنري قائلاً أن ليس ثمة من خطأ أساسي أو ضروري في مفهوم العلم أو الممارسة والتطبيقات العلمية طالما ظلّ الأمر محصوراً في نطاق دراسة الطبيعة وتطويعها للأغراض العملية ؛ لكن إذا ماسعى العلم لتقويض أشكال الثقافة التقليدية (الفن، الأخلاقيات، الدين) فعندئذ لابد أن نتوقّع مَقْدَمَ معضلات إشكالية خطيرة. يرى هنري في التطبيقات التقنية مخاطر أعظم من تلك التي يمكن أن تأتي مع الممارسة العلمية ؛ فهو يؤكّدُ أن التطويرات التقنية العمياء باتت تتطوّرُ بأشكال متوحّشة من غير الانتباه إلى مفاعيلها الخطيرة المؤثرة على الحياة البشرية.
يرى هنري في العلم شكلاً من الثقافة التي تنكرُ فيها الحياة ذاتها ولايعود لها أية قيمة مشخّصة ؛ بل يمضي حدّ توصيف العلم بأنه ثقافة تمثّلُ نفياً عملياً للحياة، وهذا أمرٌ يدفعُ حثيثاً باتجاه صناعة أيديولوجيا علمية (بمعنى أصولية علمية) تتعارضُ مع كلّ أشكال المعارف البشرية السابقة وبخاصة في الحقلين الانساني والاجتماعي. يرى هنري أنّ هذه الأصولية العلمية قد تغلغلت في كلّ المفاصل المؤسساتية للمجتمعات الحديثة (وبخاصة في الجامعات ومراكز صناعة الثقافة)، وراحت هذه الأصولية تستبعدُ الحياة البشرية (في أبعادها القيمية والثقافية وليس البيولوجية) من ميادين البحث المعمّق.
يتناول هنري في أطروحته التي يضمُّها كتابه أعلاه (الهمجية) تفاصيل محدّدة عن علاقة العلم بالمرئي ؛ فهو يرى أنّ العلم منذ عصر الثورة الغاليلية التي أسّست نشأة العلم الحديث يتعاملُ مع الحقائق المرئية المشخّصة بحيثيات مادية، وأهمل تلك الحقائق الفردية الجوّانية المتعالية (الترانسندنتالية) التي تمثلُ أعالي الثقافة البشرية وتجلياتها الأسمى. عملت الفلسفة الديكارتية على تعميق هذه الحقيقة بمنهجها الاختزالي الميكانيكي، وجاءت التطوّرات العلمية اللاحقة مكرّسة لتلك المنهجية الاختزالية المادية عقب الفتوحات العلمية الكبرى منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أيامنا الحالية. يمضي هنري في أطروحته فيتناول موضوعات مثل: الثقافة والهمجية، العلمُ منظوراً إليه من وجهة نظر الفن، العلم وحيداً: التقنية، مرضُ الحياة المعاصرة، آيديولوجيات الهمجية، ممارسات الهمجية، تحطيم الجامعة، ثمّ ينهي أطروحته بخلاصة مكثّفة مبشّرة بأن العلم يقودنا إلى عالم سفلي ديستوبي سينتهي إلى مآلات خطيرة.
قد يجد كثيرون راحة لذيذة في قراءة مثل هذه الأطروحات، وبخاصة أنها صدرت عن فيلسوف فرنسي ذائع الشهرة. تكمنُ اللذة في أنها توفّرُ لبعض الأفراد شكلاً من ميكانيكية دفاعية سايكولوجية يشعرُ معها البعضُ منّا بالسعادة عندما يرون العالم ينزلق نحو قيعان مظلمة، كما أنّ مثل هذه الأطروحات تعفيهم من مشقة التفكّر المجتهد في حال العالم والبشر، وبدلاً من ذلك يكرّسون عناصر الارتكان إلى ماهم عليه من خدر فكري وتخاذل في الفعل الحسي حتى لو كان على أضيق النطاقات الفردية ولم يتخذ سمة الفعل الجمعي المنظّم.
أقدّمُ أدناه بعضاً من النقودات التي أراها وجيهة ومسوّغة تجاه أطروحة هنري:
أولاً: يميلُ هنري كثيراً إلى الموضوعات اللاهوتية في كتاباته، وهذا ماتشي به عناوين العديد من كتبه التي تنطوي على مضامين لاهوتية مسيحية مكثّفة، ومعروفٌ أنّ فلاسفة اللاهوت يرون الامور من وجهة نظر طهرانية خالصة، وهم في هذا يتغافلون عن حقيقة أنّ العالم كينونة دنيوية لاتصحُّ معها الطهرانيات اللاهوتية التي تعزّز الرؤى القائمة على المطلقات الاخلاقية الكلية.
ثانياً: ينطوي العلمُ والممارسة العلمية على جانبين متلازمين: الاخلاقيات العلمية والتطبيقات العملية، والامر في هذا ينقادُ لما كتبه (مونتين) منذ قرون عدّة: العلمُ حِلْيَةٌ عظيمة وهو أداة عظيمة المنفعة. العلمُ له أخلاقياته وليس عنصراً محايداً في الحياة البشرية، وكثيرون من العلماء كانوا فلاسفة وصانعي سياسات إرتقت بأحوال البشر مثلما يخبرنا عالِمُ السايكولوجيا الادراكية ستيفن بينكر ؛ وعليه فإنّ النظر إلى العلم من ثقب الرؤية الغاليلية والفلسفة الديكارتية الاختزالية إنما يمثلُ إختزالاً للقيم التي ترتقي مع ارتقاء الممارسات العلمية.
ثالثاً: من اليسير أن نسِم عصرنا بأنه عصرُ التفاهة. ليس هذا بالأمر الجديد ؛ فقد حصل في عصور سابقة لنا ومع كلّ انعطافة علمية أو تقنية. لماذا؟ لأنّ كلّ ثورة علمية أو تقنية تستجلبُ معها أنماطاً فكرية وسلوكية مستحدثة، وفي الوقت ذاته تعملُ على إزاحة أنماط قديمة، ولاتجد هذه الفاعلية من (الإحلال / الإزاحة) قبولاً عند كثيرين لأسباب كثيرة، منها أنّ تعلّم الانماط الفكرية الجديدة يقتضي تدريباً عملياً وسايكولوجياً قد لايريد البعض تحمّل عبئه، وقد ينطوي الأمر على محض شعور بحنين نوستالجي للأنماط الثقافية القديمة والشعور بالضيق والإكتئاب مع الممارسات الجديدة. كثيرون – مثلاً – ناهضوا فكرة تحويل الجامعة إلى ميدان للتأهيل التقني وأرادوا الإبقاء على نمط التعليم الذي يؤكّدُ على الكلاسيكيات واللغات القديمة، وثمة أمثلة عديدة في تأريخ العلم والتقنية على أشكال المناهضة ومقاومة التغيير على صعيد البنى الفكرية والاجتماعية والتعليمية.
رابعاً: كيف يرى هنري العلماء المعاصرين؟ هل يراهم كائنات روبوتية تمتلك عقولاً احتسابية لاتعرفُ شيئاً في هذه الحياة سوى البحث عن حلول لمعادلة شرودنغر أو تطوير أفكار غير مسبوقة في الحاسوب الكمومي؟ هل يحسبُ أنهم لاشأن لهم بكلّ مايمتُّ إلى الدين أو الاقتصاد أو المؤثرات المجتمعية بصلة؟ كيف سيعلّق هنري لو قرأ الفقرة التالية التي كتبها بول ديفيز Paul Davies، أستاذ الفيزياء النظرية الذي لقيت كتبه شهرة ذائعة على مستوى العالم:
«... فَمِنْ بين العلماء غير المتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة، نجد كثيرين يعترفون بشعور غامض بوجود “شيء ما” خلف سطح حقيقة الحياة اليومية، معنى ما خلف هذا الوجود ؛ فثمة إحساس طاغ لدى أوساط أكثر العلماء راديكالية يجوز لنا أن نسميه: تبجيل الطبيعة، افتتانٌ واحترامٌ لجمالها وبُعْد غورها وحتى حماقتها، وهذا الشعور مماثل للرهبة والخشوع الديني...... “
ليس بول ديفيز وحيداً في هذه المقاربة بل له نظراء كثيرون، ولاأحسبُ أنّ هنري سيرى فيهم تلاميذ خلّصاً للمنهج الغاليلي والفلسفة الديكارتية الاختزالية الصارمة.
خامساً: ثمة تغافل قصدي أو عابر للاستحالات التي طرأت على المفهوم السوسيولوجي للثقافة ؛ فقد نرى في الجيل الجديد، جيل العصر الرقمي والثورة المعلوماتية، مثالاً على تهافت الثقافة وانحسارها: لكنّ حقيقة مايحصلُ هو تطورٌ طبيعي في شكل الثقافة وأنماط التعاطي المجتمعي معها. مثلاً لابد أنّ شيوع الخوارزميات سيلقي بظلاله على طبيعة التعامل مع البيانات الهائلة التي يحفل بها عالمنا، ولم يعُدْ مناسباً التعاملُ مع هذه البيانات بذات الوسائل التحليلية القديمة. إنّ انكفاء القدرات التحليلية الفردية أمام سطوة الخوارزميات والبيانات الكبيرة لايعني شيوع تفاهة ثقافية بأي شكل من الاشكال.
سادساً: لابدّ ان (الديمقراطية) المعلوماتية التي جاءت مع شيوع وسائل التواصل الاجتماعي كشفت عن الكثير من التفاهات والسخافات مثلما قدّمت منصّات عديدة رصينة للتعلّم الذاتي الجاد، وهي منصات كانت أقرب إلى حلم منذ عهد قريب. صار الخيار واضحاً لدى كلّ فرد: إن شئت التعلّم وتوظيف الزمن في بناء قدرات فكرية ومعرفية فعّالة فالأمر موكول إليك ؛ أما إذا شئت إضاعة الوقت فلك ذلك أيضاً. أنت من تصنعُ شأنك بذاتك.
* * * * *
ثمّة العديد من التسويغات التي تعاكس أطروحة الفيلسوف هنري ؛ لكنّ هذا ليس تَعِلّة للتفلّت من قراءة أطروحته التي سطّرها في كتابه (الهمجية: زمن علمٍ بلا ثقافة) الذي يقدّم أطروحة تحتمل الكثير من الجهد الفكري والمناقشة المستفيضة حتى بعد عشرين سنة من رحيل صاحبها.