حيدر المحسن
2
بعد انفجار مرفإ بيروت كان العمّال يحفرون الأرض لتهيئة أسس أخرى لمبنى جديد، واكتشفوا أن المكان كان جزءا من البحر، حيث ترقد بقايا سفينة تعود إلى القرن الثامن عشر. ولولا انهيار المبنى بسبب الانفجار لظلّت راسية في باطن الأرض.
لا حاجة للأديب إلى انفجار يموت بسببه مئات وآلاف الناس ليتواصل مع الأرواح التي قضت في هذه السفينة ويناجيها. إن (الواقع) ينزّ بالمعلومات التي نطلبها للبحث، لكن (ضدّ الواقع) يصبّها لنا مثل مزنة دفعة واحدة وفي وقت قياسيّ، فهو اكتشاف يقوم به الفنان وحده، إذ يكون بإمكانه رؤية ما يحدث خلف سطح الأشياء وما تحته وما وراءه. كان الناس في بيروت نائمين في تلك الساعة، هذا صحيح، لكن ثمة صخب في السريرة منهم يضجّ ويعلو، ويذوب في الغيمة المتعجلة التي تعبر سماء المدينة، وتجري السيول بعد ذلك في النهر الغامض تحت الأرض، والذي كانت حكاياته تأتيني، وأحاول فكّ شفرتها، ومعها نبض المدينة القديم والجديد والذي سوف يخفق به قلب الحياة في المستقبل.
لا تظهر الحياة في المدينة على حقيقتها في النّهار الصاخب وفي اللّيل الضّاجّ بالموسيقى والرقص والخمرة، وراحت تتفتح بيروت لي مثل زهرة في الضياء الأول من النهار، وتبلغني أصوات ساكنيها عبر أحلامهم، تنقل لي صورة خالصة عن الألم الإنساني وأساه وفرحه. كأنما تلبّست المياه الجارية في أعماق شارع الحمرا أرواحا حيّة راحت تحكي لي ما حدث هنا. الظلام والضوء اتّحدا معا وصارا لونا واحدا يصبغ الهواء والسماء والأرض، وفي مثل هذا الجوّ تجري الوقائع في قصة “الصرخة”، حيث تسير عجلة السيرك في شوارع خالية، وكنت أعيش جوّ القصة في تلك الوهلة دون أن أدري. إن كوننا الرحيب يتعرّض في كل ثانية بسبب الأزمات والتحيزات والظلم إلى نوع من الصدمة، وتتحطم أجزاؤه وينزلق إلى عالم مشوّه ليس له معنى ولا جاذبية جمالية، وما يقوم به الفن هو تصوير هذا الواقع على حقيقته، أو ربط أجزائه المحطّمة بعضها إلى بعض، وكلما كان العمل متقنا كانت الصورة أدقّ وأوضح. لكلّ واحد منا صورة ذاتيّة ومحدودة وقاصرة عن الواقع، أما الواقع الجوهري أو الجمعي، والذي يضمّ تجارب الجميع -أو أمّ الكتاب بالتعبير القرآني- فلا وجود له إلاّ في ضمير الفنان.
إن كل عمل فني هو محاولة لإزالة سطح الواقع السميك والرؤية بدلاً بواسطة مسبار يمتلكه الفنان. وعندما تسقط ورقة من الشّجرة يقول العلم والمنطق إنها صارت ميّتة، لكن تبجيل الفنّ لها يزداد في اللحظة التي يكفّ النسغ عن نبضه في عروقها. ثمة شيء مفقود في لحظة الولادة الثانية للورقة، ويجهد الفنان نفسه في سبيل تتبع هذا المفقود، والذي يزداد حجما وقوة كلما تقدّمت عقارب الساعة. إن مشهد نبتتين متجاورتين، إحداهما يانعة خضراء والأخرى يابسة صفراء، يُربك الفنان ويزيد حيرته في تحديد الميّت من الحيّ في المشهد، ثم يطمئن أخيرا إلى أن النبتتين متساويتان في الحياة، الخضراء لها روح خضراء، والصفراء اليابسة لها طبيعة صفراء، ولا فرق بين اللونين الأصفر والأخضر، فكلاهما جذّاب إلى درجة أن كل ما حوله يصبح بالنسبة إلينا ممتلئا بالنعمة والبهجة. في اللحظة التي نطمئن فيها إلى أننا نرى كل شيء أمامنا، يتولّد لدينا شعور بأننا لم نرَ أيّ شيء، أي أن الواقع الجمعي يبدأ حيث ينتهي الواقع.
أخيرا، فإن (ضدّ الواقع) هو أشعة «إكس» للحياة، الاقتراب أكثر من ظلامه المضيء يغشي البصر ويؤدي إلى العمى. يقول شكسبير: «انظروا إلى الظلمات حيث يرى العميان».