ياسين طه حافظلكل دولة نظام يحكم العلاقات الاجتماعية ويجمعها معاً ضمن "مجتمع". ولا نستطيع فهم هذا النظام من دون اعتبار لتاريخ تطوره والغايات أو الأهداف التي يخدمها. مثلما يتطلب هذا الفهم معرفة القيم والأخطار التي تعترض هذا النظام وهو يؤدي "مهامه".
"شخصية" الدولة الحديثة عموما يرسمها التاريخ الذي مرت به وهي تعمل في ضوء ذلك التاريخ. سلطة الدولة غير متأتية من فراغ ولا هي تعمل في فراغ. هي تعمل على تحقيق غايات تراها جيدة في أوقات تراها جيدة. ينجزها لها أولئك الذين "يمتلكون" الحق في إدارة السلطة.تهمنا من ذلك، مرة أُخرى، القيم والأخطار المعترضة وجدوى الناس من النتائج المتحققة. تقدير هذه النتائج يتوقف بصورة كبيرة على رأينا في الأهداف، او الغايات التي تسعى الدولة لتحقيقها والطريقة التي تعمل فيها على تحقيق تلكم الغايات والأهداف.لن أتكلم في تاريخ الدولة. سأكتفي بالتأكيد على ان "شخصيتها" بوصفها كيانا إدارياً هو نتاج سلسلة طويلة من الظروف رسمت الحاجة لنظام واضح المعالم يحوّل رغبات السلطة ووعودها إلى قرارات. والدولة بهذا تكون كياناً اجتماعياً قادراً على فرض أوامر وقرارات تحترمها او ترضى بها الجماهير، او نسبة كبيرة من ناس تلك الدولة. فهي إذن يجب ان تكون قادرة على إدارة النظام، أي تكون قادرة على تنفيذ الأوامر وضمان طاعتها. ان انتصار الدولة يتمثل بمقدرتها على فرض إرادتها على الجميع ضد المنافسين الذين لا يألون جهدا لتحقيق أهداف أُخرى مناقضة، او خارجة عن خط الأهداف الأولى. السؤال الآن: لماذا للدولة الحق في فرض إرادتها؟ ولماذا شرعيتها بمدى قدرتها على تنفيذ هذا الفرض؟من هذه النقطة ننتقل من طبيعة الدولة متمثلة بنظام رسمي قانوني، إلى الدولة موضوعاً للتحليل الفلسفي. هنا يجب ان ننظر من زوايا مختلفة ونوضح أهداف هذه الدولة كما تبدو لنا. ونفسر تبعا لذلك طبيعة ومزايا الأوامر الرسمية التي تطرحها في المناسبات والأوقات المختلفة. علينا أيضاً ان نبحث عن "معيارية" تمكننا من ان نقرر ما هي الحقيقة "العامة" لمجمل الأوامر المراد تنفيذها؟بهذه التساؤلات ننتقل من السياسة، من الدولة نظام حكم، إلى حقل تساؤلات واجتهادات فكرية. وبهذا الانتقال نكون أيضاً قد سمحنا للتاريخ بالتدخل كما هيأنا فرصة إضافية للفلسفات القديمة والحديثة ولفلسفات العالم الخارجي لتجد فرصتها اللازمة تاريخيا للعمل في هذا المجال. وعملها سيكون تجاوبا او ازاحة او اشتباكا ميدانيا. لكن في حالات الحكم السلطوي الفردي يكون تنفيذ القرارات اسرع بحكم جبروت القوة، وقوة الفرض الأشد يصحبها الغاء ارادات أكثر. وهنا نكون امام اشكال فلسفي آخر.فاذا افترضنا ان نظام الدولة ومجموع أوامرها لتلبية مطالب "الناس" وافترضنا تحقق ذلك، فهي في جميع الأحوال تلبي مطالب اولئك الذين استطاعوا الوصول إلى مركز القرار. فهم من "تصوروا" المطالب وهم من أمروا بتنفيذها. والسؤال هو هل "فكر" الناس خارج هذا المركز واسهموا في توجيهه؟ السؤال يستوجب تكملةً: كم عملياً وجمعياً هو فكر الدولة؟ وهل هو فكر اشتمل على التفاصيل الحاضرة والمستقبلية لعموم ناس الدولة ام اقتصر على اليوم الذي "ينفع" وينفع من؟ واذا كانت الدولة جهاز تطبيق متطلبات لواقع، فتلك متطلبات مختارة على وفق رؤى ناتجة من طبيعة تفكير وضرورات مصالح هم يقدرونها.المشكلة الأُخرى، وهي التي تضعنا في صميم الاشكال الفكري، ان للدولة جهازا تربوياً. أي انها تصنع أفكارا وتوجه سلوكا يتحكم من بعد بتحديد مستقبل الشعب. وهذه واحدة من الاشكالات الفلسفية القديمة شغلت الفكر اليوناني وظلت تثير التساؤلات حتى اليوم. انهم، عموما، يعتمدون "الضرورة" والضرورة هنا موضع تساؤل. هي حتى الان السبب الاوضح للقرار وتنفيذه.. نحن لانعدم الشك بهذه الضرورة، وقد نرتضي لدرجة ما بها، ولكننا نتساءل عما وراء المطلب الناتج عنها قبل ان يستحيل قرارا وقبل ان يفرض القرار الضرورة الثانية لتنفيذه. هي بالتأكيد مسألة استهانة واغفال للاخرين البعيدين عن مركز المصالح او مركز القرار. الدوافع او الأسباب التي تقود رجل الدولة إلى "الفعل" هي بلا شك، أسباب ودوافع معقدة لا تسمح بتفسير بسيط ولا سبب منها أكثر اقناعا من سواه. هي جملة أسباب تعمل معا وراءها عقل اداري نفعي كبير. واكبر تزييف "مقبول" هو القول بان الذي في المركز، حين يكون صاحب عمل يعرف احتياجات العامل أكثر من العامل او اقطاعيا يعرف احتياجات الفلاح أكثر من الفلاح او ممولا ...الخ.باعتبار ان صاحب العمل او صاحب المصنع كان عاملا والاقطاعي او صاحب المزرعة كان فلاحا .. الخ. بهذا التفكير هم يعطلون المدى الفكري ويتجاوزون تطور المنافع ويلغون مستجدات مطالب العصر ويرون انفسهم الأحق بالتعبير عمن يحكمونهم بحجة انهم يعرفون مصالحهم أكثر منهم.واذا ما سلمنا لافتراض ان الدولة تعتمد مجموعة افراد يوجهون الأوامر باسم الدولة وينفذونها لصالحهم، عندئذ ستتفرع من هذا مسألة معقدة أُخرى، هي مسألة العدالة والمساواة. فحين لا تكون حصت
السياسة وتساؤلات الفلسفة
نشر في: 4 يوليو, 2010: 05:42 م